بما أن الشباب يمثلون العمود الفقري للتظاهرات الاحتجاجية في العراق، أرى لزاماً التذكير بأن هذه الشريحة أمامها فرص كبيرة وذهبية للإصلاح والتغيير في المحيط التي هي فيه، وفي مقدمتها التعليم، ونخصّ بالذكر التعليم الجامعي، الذي يختزل بين أسواره جميع أشكال الفساد الإداري والمالي...
بينما مسجد الكوفة غاصٌّ بالحضور لسماع كلمة الوالي الأموي؛ عبيد الله بن زياد بعد أيام من واقعة الطف، وهو يرعد ويزبد، مبيناً للناس بطولاته بتصفية المعارضة المتمثلة بالإمام الحسين، والصفوة من أهل بيته واصحابه في كربلاء، وإذا بزمجرة تمزق صمت الحضور القاتل، وينتفض رجلٌ بين الجموع الخامدة، رغم كبر سنّه، وفقدانه بصره، بيد أن بصيرته هدته الى الموقف التاريخي الفذّ، ألا وهو عبد الله بن عفيف الأزدي، وقف بكل شجاعة وقاطع كلام ابن زياد، بما لم يتوقعه قط، و أعاد عليه اتهاماته بالكذب لأهل بيت رسول الله، بأن "الكذاب هو أنت وأبوك يا عدو الله..."! ثم جرى ما جرى من مطاردة واعتقال هذا الرجل البطل، واعدامه.
التاريخ لم يحدثنا عن عدد الحضور في المسجد آنذاك، حتى لم يقدر العدد، فلو كان عبد الله بن عفيف الازدي منصاعاً للرأي العام المؤيد والخانع أمام الحكم الأموي، ومستسهلاً لما قام به من جريمة كبرى، لما سجله التاريخ بأحرف من نور، وذكره الاجيال طيلة القرون المتمادية، وعندما نتحدث عن الدور التربوي والاعلامي للإمام السجاد، عليه السلام، للإبقاء على جذوة النهضة الحسينية حيّة في النفوس، وأنها كانت الداينمو الذي حرك الثورات والانتفاضات الشيعية على مر التاريخ، فان حراكاً من مثل انتفاضة الأزدي، وأمثالها، التي ربما غيبها التاريخ عنّا، كان لها الدور الموازي لدور الامام السجاد، والأئمة من بعده في نشر الوعي وصياغة الثقافة الاسلامية التي ضحى من أجلها الامام الحسين، عليه السلام.
هذه التجربة الإصلاحية الرائدة لم تحصل في بلد اوربي، او افريقي، إنما حصلت في العراق، وتحديداً في مدينة الكوفة القريبة علينا، مع فارق الظروف الزمانية والمكانية، وما زلنا في أيام الاربعين وما بعد واقعة الطف في شهر صفر الخير، حيث يتأهب العراقيون اليوم لجولة جديدة من التظاهرات الاحتجاجية في بغداد وسائر المحافظات على أمل تحقيق تغيير الاوضاع لما هو أحسن وينقذهم من وطأة الفساد الذي يشدّ خناقه عليهم يوماً بعد آخر.
ولكن! ثمة سؤال يقفز أمامنا:
هل الفساد موجود في البرلمان ومجلس الوزراء والقضاء، والدوائر المتفرعة عن مؤسسات الدولة؟، وهل تغيير السياسي الفاسد، الى سياسي صالح ونزيه يأتي بطلب من المتظاهرين في الشارع وحسب؟!
يتفق معظم المعنيين بأن الفساد نزعة نفسية مغروزة في كل انسان، كما هو الظلم، إنما تأتي الموانع والكوابح لتفعل فعلها في ضبط هذه النفس ضمن ضوابط اخلاقية، "الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلمُ" (المتنبي).
وجاءت التأكيدات متوافرة على أن الحاكم؛ في أي منصب وصفة كانت، إنما يعكس بعمله الفاسد، وسلوكه الجائر، واقع شريحة واسعة من مجتمعه، لنأخذ مثلاً بارزاً في حب المال، فاذا كان من سمات المجتمع حب المال بشكل جمّ، أو اهتمامه البالغ بالوجاهة الاجتماعية، وعدّ الاثنين من عوامل القوة وتحقيق الحياة المستقرة والآمنة، وليس لقوة المنطق والاخلاق والدين، فمن الطبيعي أن يستغل هذا الحاكم هذه الرغبة والنزعة لتحقيق اهدافه الخاصة، او اهداف الجهة التي تقف خلفه، قبل إلقاء بعض الفتات الى هذا او ذاك لشراء الولاء وتكميم الأفواه.
وبما أن الشباب يمثلون العمود الفقري للتظاهرات الاحتجاجية في العراق، أرى لزاماً التذكير بأن هذه الشريحة أمامها فرص كبيرة وذهبية للإصلاح والتغيير في المحيط التي هي فيه، وفي مقدمتها؛ التعليم، ونخصّ بالذكر؛ التعليم الجامعي. ولمن يتابع هذا الميدان عن كثب، يجد –في بعض الاماكن- أنه يختزل بين أسواره جميع أشكال الفساد المالي والاداري والظلم والرشوة وتضييع الحقوق، فالطالب الجامعي الذي يحرص على الحضور في الوقت المحدد صباحاً، ويتفاعل مع المادة الدراسية وأن يكون مجدّاً ومتفوقاً على أمل ان يكون من الأوائل، يتطلع دائماً الى إكمال السنة الدراسية بخير وسلام، والانتقال الى السنة القادمة، ثم التفكير بالدراسات العليا، ثم التفكير بفرصة العمل، وما اذا كان محظواً بالتعيين المركزي وغير ذلك من الامنيات التي تشغل بال كل طالب جامعي.
وبينا هو كذلك، وإذا يبلغ مسامعه صعود طالب راسب باكثر من درس وتحقيقه النجاح والانتقال الى المرحلة الاخرى بشكل غريب وغير متوقع، أو ان يتعرض طالب في جامعة أهلية للجور بعد تحقيقه المرتبة الاولى التي تؤهله للانتقال الى جامعة حكومية بمواصفات أعلى، فيُحرم من هذه الفرصة، بل ويحرم ايضاً وبشكل مذهل، من تخفيف القسط الدراسي بقرار من وزارة التعليم العالي، وبدلاً من التعليم المجاني لهذا الطالب المجدّ، او على الاقل التخفيف الى حد النصف، جاءته المكرمة بالتخفيف بنسبة الربع!
أو كلية في جامعة حكومية ضخمة مترامية الاطراف، تكون فيها الطالبات مجبرات على السير مسافة طويلة من أجل دورات مياه خاصة بهنّ في كلية مجاورة!! وعندما يعدن الى القاعة يتعرضن للتقريع والتأنيب على التأخير على المحاضرة، واذا كان ثمة اعتراض او توضيح لهذه المشكلة، يأتي الجواب المحيّر من استاذ جامعي بأن: أسرعوا الخطى للوصول في الوقت المحدد!!
هذا غيض من فيض المشاكل التي يعاني منها طلبة الجامعات، وهم أنفسهم الشباب الواعد لمستقبل ينتظره البلد ليكون ذاك المهندس، وتلك الطبيبة الاخصائية، او ذاك المحامي، والعالم في الاقتصاد والسياسة والاجتماع.
واذا كان المواطن يحتمل كسب لقمة عيشه من "بسطية" على الأرض يعرض عليها بضاعته في السوق بدلاً من المحل التجاري المرموق، او يحتمل العيش في بيت "تجاوز" ضمن العشوائيات، لافتقاره الى قطعة ارض مرسومة من البلدية ومبنية بأفضل المواد الانشائية ومجهزة ومؤثثة، او ان يقنع بالدراجة الهوائية او الدراجة النارية الصغيرة، لافتقاره الى السيارة، فان الوضع يختلف تماماً مع الطالب الجامعي، فهذا ليس طالب مدرسة يحفظ الدرس لينال الدرجات العالية، إنما هو يعد نفسه الموظف والمسؤول في المستقبل القريب، و ربما صانع القرار، الامر الذي يجعل إصلاح الاوضاع وحتى تغييرها جذرياً، لا مناصّ منه، وإلا فان ثقافة الهجرة تتحول الى خيار عام لكل طلبة الجامعة والتفكير ببلد آخر غير العراق يبدعون فيه، ويستثمرون عقولهم وقدراتهم بعيداً عن الازمات والمنغّصات.
نعم؛ الوقوف بوجه العمادات في الجامعات له تبعات إدارية سيئة على الطالب، كما له آثار معنوية سيئة ايضاً تنعكس على هيبة الجامعة ومنزلة الاساتذة ومكانتهم في الجامعة والمجتمع، ولكن؛ لابد من المطالبة الملحّة من خلال وقفات واعتصامات سلمية، واللجوء الى وسائل أخرى آمنة لتشكيل أدوات ضغط، ليس على الجامعة والعمادات فيها، وإنما على وزارة التعليم العالي، ومن خلفها الحكومة وايضاً السلطة التشريعية لتعرف أن ثمة أزمة كبرى في ميدان غاية في الاهمية بالبلد، وهو ميدان التعليم العالي لا يجوز السكوت عنه، فالجامعة من شأنها ان تخرج الوزير والمدير والسياسي والخبير الاقتصادي والتقني وغيرهم، وهم على درجة عالية من النزاهة والإخلاص والحب للوطن وأهله عندما يكون المنهج سليماً، والادارة حريصة على توفير كافة المستلزمات والامكانيات للطالب الذي يعوّل عليه تنفيذ الخطط التنموية والمشاريع الكبرى في البلد بكل صدق وأمانة.
اضف تعليق