كان من المطلوب لتصحيح الاختلال الحاصل في النظرة الدولية للعراق إدراك حكومته لضعفها العسكري والاقتصادي والالتفات الى التركيز على استثمار مصادر القوة الناعمة لديها بشكل أكثر كفاءة في المحيط الدولي، لاسيما انها قوة أقل كلفة ونتائجها الإيجابية مضمونة ان احُسن استخدامها؛ لأن للعراق مصادر مذهلة...
القوة كما يعرفها (نابليون هيل) تعني " المعرفة المنظمة الموجهة بذكاء لتحقيق هدف محدد"، ولهذا التعريف ميزة كبيرة عند توظيفه في حقل العلاقات الدولية؛ لأنه يجعل السياسة الخارجية للدولة عبارة عن حركة دائمة تتطلب استثمار كل مصادر قوتها المتاحة بشكل منظم وذكي لتحقيق أهدافها إزاء الدول الاخرى، وهذه الأهداف هي المصالح العليا والاساسية التي تدافع عنها الدولة –وأحيانا-تقاتل من اجلها.
ولأن الحرب لم تكن في يوم من الأيام الخيار الأول للقادة العظماء لتحقيق مصالح بلدانهم، وانما هي واحد من الخيارات المطروحة، وربما آخرها، حتى قال (صن تزو) في كتابه المشهور (فن الحرب): " ان أعظم القادة من يحقق مائة انتصار في مائة معركة، وأعظم منه من يحقق مائة انتصار بدون الدخول في أي معركة"، فأن قوة الدول لا تقتصر على قدراتها العسكرية فقط، بل تتضمن مصادر أخرى كالموقع الجغرافي للدولة وحجمها وعدد سكانها، فضلا قدراتها الاقتصادية والتكنلوجية لينتج من كل هذه المعايير في النهاية مقدار القوة السياسية للدولة في المحيط الدولي.
ولكن قوة الدول وتأثيرها في هذا المحيط لا تنحصر بما تقدم من مصادر، بل قد تقف بعض هذه المصادر عاجزة عن تحقيق إرادة الدولة في ظروف معينة، كيف؟
ان تقدم وانتشار الأسلحة النووية وما بعد النووية حجم وسيحجم أكثر مستقبلا قدرات الدول في اللجوء الى قوتها العسكرية لفرض ارادتها وخلق الاذعان لها من قبل دول أخرى تمتلك نفس المستوى من هذه القوة، بصرف النظر عن حجم تلك الدول وعدد سكانها ومستواها الاقتصادي، وربما تقتصر حروب المستقبل على الدول ذات القدرات العسكرية التقليدية البدائية، او على الدول غير المتكافئة في هذه القدرات، كأن تكون دولة (أ) متقدمة عسكريا بشكل كبير ودولة (ب) متخلفة كثيرا عنها في القدرات التسليحية ولا تمتلك-أيضا- قدرات التدمير العسكري الشامل، ففي هذه الحالة من الطبيعي ان تتشجع الدولة (أ) في اللجوء الى الخيار العسكري لتحقيق حسم سريع وارغام مباشر للدولة (ب)، وهذا ما وجدناه ماثلا في حرب الخليج الثانية، فمعرفة واشنطن وحلفائها بعدم امتلاك صدام حسين للسلاح النووي وما يرتبط به من قدرات كان واحدا من الأسباب التي شجعتها على اتخاذ قرار تدمير العراق وحسم الصراع معه عسكريا، بل ان قرار احتلال هذا البلد عام 2003 كان مرتبطا بهذا الادراك أيضا.
ولكن في سياق آخر، تجد واشنطن نفسها، تقف عاجزة عن اللجوء لخيار الحرب لفرض ارادتها على كوريا الشمالية، على الرغم من مشاكسة الأخيرة ووصفها سابقا من البيت الأبيض بأنها محورا من محاور الشر في العالم، بل تجد ان امتلاك السلاح النووي قد خلق ردعا متبادلا بين عدوين لدودين كالهند والباكستان ومنعها من اتخاذ خيار الحرب الشاملة بينهما والاقتصار على المشاكسات المحسوبة بين فينة وأخرى.
نخلص من ذلك الى القول: ان الحروب العسكرية ستكون مكلفة جدا بين الدول القوية في المستقبل، وستراجع هذه الدول حساباتها مليون مرة قبل أن تقدم عليها، وقد لا تقدم عليها اطلاقا، الا لو تصورنا ان قادتها قد اصابهم الجنون التام لوضع بلدانهم والعالم على حافة الدمار الشامل.
الا ان ذلك لا يعني ان الحروب بين الدول من اجل تحقيق أهدافها=مصالحها ستتوقف، لماذا؟
ان الصراع سمة إنسانية ولا يمكن تغيير هذه السمة، وطالما اختلفت مصالح البشر، فالصراع حتمي للدفاع عنها وحمايتها، لذا ستبقى الحروب مستمرة بين الدول، وستبقى ترساناتها العسكرية المتقدمة وقدراتها الاقتصادية المتفوقة مصدرا مهما من مصادر قوتها الرادعة، الا انها ستعتمد أكثر وأكثر لتحقيق مصالحها وخلق الإذعان لإرادتها من قبل الآخرين على شكل آخر من أشكال القوة، الا وهو ما يسمى بالقوة الناعمة، وكلما اتسع رصيد الدولة من هذه القوة اتسعت معها قدرتها على فرض ارادتها وتحقيق مصالحها، واذا كانت القدرات العسكرية والاقتصادية تمثل القوة الصلبة للدول، فماذا تعني قوتها الناعمة؟
ان القوة الناعمة او (الطرية=اللينة) كما عرفها (جوزيف س. ناي) في كتابه (القوة الناعمة... وسيلة النجاح في السياسة الدولية) الذي صدر عام 2004 هي " القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الارغام او دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسية، وسياساته، فعندما تبدو سياساتنا مشروعة في عيون الاخرين، تتسع قوتنا الناعمة".
وتمثل هذه القوة –حسب ناي-"... القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدي الى الإذعان"؛ لأنها " تستخدم نوعا مختلفا من العمل... لتوليد التعاون، وهو الانجذاب الى القيم المشتركة، والعدالة، ووجود الاسهام في تحقيق تلك القيم".
وبناء على ما تقدم، تتجسد مصادر هذه القوة في الثقافة، والقيم السياسية، والسياسة الخارجية للدولة، وكلما اتسع رصيد دولة ما منها اتسعت قدرتها على تنفيذ برنامجها في الميدان الدولي، وان براعة لعب الدولة في هذا الميدان تكون من خلال استخدامها كلا القوتين: الناعمة والصلبة، في الزمان والمكان المناسبين، لتصبح حصيلة الدمج بينهما في النهاية ما سماه (ناي) " القوة الذكية".
وبالحديث عن دولة مثيرة للجدل في محيطها الإقليمي والدولي كالعراق، نجد ارتباط علاقات هذا البلد خلال المدة السابقة لعام 2003 بالاستخدام المفرط للقوة الصلبة ترتب عليها نتائج كارثية عليه وعلى البلدان المجاورة، اما بعد التاريخ أعلاه، فتبدو علاقاته الدولية متأرجحة وغير مستقرة، نتيجة: ضعف الدولة، وتدمير الكثير من مصادر قوتها العسكرية والاقتصادية، ترتب عليها خسارة كبيرة جدا انعكست سلبا على قدرته في حماية مصالحه وفرض اجنداته على الأطراف الدولية الأخرى، وما فاقم هذه الخسارة هو الفشل شبه التام للحكومات المتعاقبة في استثمار مصادر القوة الناعمة للعراق بطريقة ذكية وموجهة لحماية وتحقيق مصالحه.
لقد سوقت الحكومات العراقية او ساعدت على تسويق نفسها كنظام طائفي في محيطها الدولي، بدلا من ان تسوق نفسها كحكومات تمثل وتمتلك ثقل الدولة العراقية برمتها، وسمحت الصراعات الداخلية، والهجمة الإرهابية الشرسة ومن يقف خلف تمويلها ودعمها، والخطاب السياسي والإعلامي البائس، والفساد الإداري والمالي المؤسف بتكريس هذه الصورة في ذهن المتلقي الخارجي، مما أضعف المفاوض العراقي في أي مفاوضات دولية يعقدها، بل كان محل انتقاد واتهام مستمر ترك نتائجا مزعجة لا يمكن انكارها.
وكان من المطلوب لتصحيح الاختلال الحاصل في النظرة الدولية للعراق إدراك حكومته لضعفها العسكري والاقتصادي والالتفات الى التركيز على استثمار مصادر القوة الناعمة لديها بشكل أكثر كفاءة في المحيط الدولي، لاسيما انها قوة أقل كلفة ونتائجها الإيجابية مضمونة ان احُسن استخدامها؛ لأن للعراق مصادر مذهلة من القوة الناعمة كثيرا ما تم اغفالها –جهلا او عمدا-وبالإمكان توظيفها بصورة أكثر فاعلية لتحقيق مصالحه الدولية.
واول هذه المصادر هو الموروث التاريخي للعراق والذي يتجسد بحضاراته القديمة: سومر وأكد وبابل وآشور، اذ لا زالت بلاد ما بين النهرين في التفكير العالمي تمثل مهد الحضارات الأولى، التي تثير رغبة الكثير من اجل زيارتها والتعرف عليها، بل والوقوف أمامها بتبجيل واحترام، وكان بالإمكان توظيف هذا الامر بعناية اكثر في جذب السياحة العالمية الترفيهية والاثارية لاكتشاف هذا الموروث والتواصل من خلاله مع العالم الا ان الحكومات العراقية منذ مدة طويلة تجاهلت نصيحة السيد (صموئيل نوح كريمر) في كتابه (السومريون : تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم )عندما دعا العراقيين الى عدم اهمال " اسلافهم من الماضي البعيد الذين فعلوا الكثير لا للعراق فحسب، ولكن للإنسان في انحاء العالم كافة"، فضاعت على العراقيين فرصة سانحة للتواصل الحضاري مع العالم من خلال مآثر اجدادهم التي تعطيهم جاذبية وتأثير لا ينكر على غيرهم.
كذلك يمثل العراق في الذهن العربي رمزا مهما من رموز قوته واعتزازه القومي والديني، فهو يمثل حاضرة العالم في القرون الوسطى، ومدنه الرئيسة كالكوفة والبصرة وبغداد كانت ولازالت هي مدن العلماء والفقهاء، وعلى ارضه تشكلت المذاهب الإسلامية، وفيها دفن الاولياء والصالحين الذين هم مقصد العربي والمسلم من كل مكان، ولا يمكن للتفكير العربي بالعراق ان يتحرر من هذه الصورة المؤثرة التي تجعل هذا البلد سيدا تنساق النفوس اليه وتعجب به وتتألم لكل كارثة أو مصيبة تحل به، الا ان السياسة الخارجية العراقية ومن يقوم على صناعتها تقطع باستمرار هذا الجسر ولا تبني عليه ركائز صلبة تساعد على توثيق العلاقات مع العرب، بل والمسلمين عموما.
كما يشكل العراق في الوجدان الديني العالمي منبع الأديان التوحيدية الرئيسة في العالم، ولدى هذا العالم شعورا فطريا بالانجذاب اليه، لكن مع الأسف لم يوظف هذا التأثير الناعم القوي بشكل صحيح من الحكومة والشعب العراقي، بل على العكس تم اختزال قيمة العراق ودوره الانساني بصراع طائفي لحظي ينسف كل ما يمثله هذا البلد، ويدفع الاخرين الى التركيز على هذا الصراع المقيت.
وللأدب والفن العراقي إيقاع وتأثير طيب لدى المتلقي العربي –على الأقل-تجده جليا عندما تزور وتتحدث مع الشعوب العربية من المغرب العربي الى مشرقه، ولكن لم تبذل جهود وطنية ذات رؤية شاملة لتطويره وزيادة جاذبيته، بل العكس هو الصحيح، اذ أصاب هذا القطاع الإهمال والاتهام مما دفعه الى الانحدار والتراجع المستمر وتحول في كثير من الأحيان الى قطاع مثير للشفقة فاقد لكل ابداع وقدرة على مواكبة روح العصر، وهذا بحد ذاته يمثل استخفافا ناجم عن جهل بمصدر مهم من مصادر التأثير الإيجابي للعراق في محيط مهم تربطه به مصالح كثيرة ومستمرة.
وهناك كثير من العرب الذين درسوا في الجامعات العراقية وأصبحوا قادة سياسيين وأساتذة جامعات وقادة رأي في بلدانهم وهم يحملون ذكريات طيبة عن العراق وشعبه، ويمثلون قوة اجتماعية منحازة فكريا ولا شعوريا للعراق كان لا بد من استثمارها اكثر من خلال التواصل الدائم بها بكل طريقة ممكنة، فضلا عن تعزيز مستوى الجامعات العراقية في استقطاب المزيد منهم، الا ان اهمال ذلك ارتد سلبا على تطور التعليم في العراق، وعلى قدرة الدولة على استثمار وتطوير العلاقات مع قاعدة بشرية داعمة ومؤيدة لها في الخارج.
والعراقيون في الخارج الذين هاجروا او هجروا لسبب أو آخر، وأصبح الكثير منهم أرقاما مؤثرة في المجتمعات التي استقروا فيها، وكان يمكن ان يكونوا قوة عراقية مؤثرة في تلك البلدان تقود اعمالها الى دعم وجهة النظر العراقية لتنعكس بشكل قرارات لمصلحة بغداد، الا انهم تم اهمالهم بشكل كبير، ولم تخصص برامج وطنية ذكية وموجهة لاستقطابهم لا بنية عودتهم للعراق ولكن بنية تحويلهم الى لوبيات عراقية تشكل امتدادا خارجيا للدولة العراقية.
أما أقوى مصادر القوة الناعمة المهدورة للعراق فهي الديمقراطية الناشئة بعد عام 2003، تلك الديمقراطية التي كان يمكن لها ان تشكل طوفان جارف من القيم الايجابية على امتداد الشرق الأوسط لا يقل تأثيره ابدا عن تأثير الثورتين: الفرنسية والأمريكية في العالم لو كان لدى العراق قوى سياسية صبت اهتمامها على احترام وتكريس قواعد واحكام الحكم الديمقراطي الرشيد.
ان الشرق الأوسط –كان ولا يزال- يمثل مركزا مهما من مراكز الحكم الدكتاتوري المستبد على مستوى جميع حكوماته، وقد استثمرت هذه الحكومات لتكريس وتأبيد وجودها كل الشعارات من القومية والدين الى الطائفية، ونجحت من خلال ذلك في خداع وارباك وتدجين شعوبها. لذا فالعامل المشترك بين جميع شعوب الشرق الأوسط، بصرف النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية والفكرية، هو بحثهم عن حلم الحرية الديمقراطية في ظل دولة مدنية يحكمها قانون عادل، وتُتخذ قراراتها لمصلحة الجميع، وتوزع مصادر الثروة والنفوذ فيها بعدالة.
لقد كان بإمكان العراق ان يكون تجسيدا ماثلا لهذا الحلم، وكان بإمكان قادته ان يكونوا نماذج عراقية للحرية في الشرق الأوسط لا تقل شأنا عن (صولون) في العقل اليوناني أواخر القرن السادس قبل الميلاد، والاباء المؤسسين في العقل الأمريكي في القرن الثامن عشر، ومفكري الحرية لعصر النهضة في العقل الأوربي منذ القرن السادس عشر، لكن للأسف اختزلوا انفسهم وبلدهم الى مجرد دولة هشة وديمقراطية فاشلة يحكمها امراء الطوائف والاعراق، ويتسابق الجميع فيها للاستحواذ على المزيد من السلطة والغنائم، فخسر بلدهم قدرته على ان يكون مركز تصدير القيم الديمقراطية لمحيطه الدولي، وفقدت تجربة حكمه جاذبيتها وتأثيرها الخارجي، بل أصبحت تجربة سيئة يُضرب بها المثل من قبل دعاة الحكم الدكتاتوري في الشرق الأوسط؛ لإرغام شعوبهم على العبودية المستمرة، وقبول الخضوع لأنظمة حكم فقدت شرعيتها منذ زمن بعيد حتى باتت عبئا ثقيلا على شعوبها.
صفوة القول: يخطأ كثيرا من يظن ان العراق فقد تأثيره العالمي، فهو لا زال وسيبقى لديه هذا التأثير، من خلال ما يمتلكه من رصيد زاخر من القوة الناعمة، الا ان هذا الرصيد سيبقى مجرد قوة محتملة وكامنة تحتاج الى بشر اذكياء لديهم الإرادة والتصميم والقدرة على تحويلها الى قوة حقيقية تنتج دولة تمثل بشعبها وحكامها ونظام ادارتها أنموذجا جذابا للعالم، واذا ما تكاملت هذه القوة مع قوة صلبة منظمة ومتقدمة عندها فقط سيكون بإمكان المفاوض ورجل الدولة العراقي ان يحقق مئات الانتصارات في السياسة الخارجية بدون الحاجة الى خوض معركة واحدة.
اضف تعليق