الصِّراعات السياسيَّة والحزبيَّة تترك بظلالِها على طبيعة إِنتاج المحلِّلين السياسيِّين بدرجةٍ كبيرةٍ ولذلكَ يصعب الوثوق عليها. إِنَّ إِفتقار التَّحليل السِّياسي للحَياديَّة جعلهُ عاجزاً عن صِناعة رأيٍ عامٍّ أَو حتَّى التَّأثير بهِ. حريَّة التَّعبير، وهو الأَمرُ الذي نفتقدهُ في ساحتِنا بشَكلٍ واضحٍ، إِذ أَنَّ وجودَ خطوطٍ حمراء...

يتساءل كثيرُون، هل تكفي حريَّة التَّعبير لصناعةِ تحليلٍ سياسيٍّ سليم؟!.

بالتَّأكيد لا، فحريَّة التَّعبير تخلقُ الجو المُلائم لتهيئةِ أَدوات التَّحليل السِّياسي، أَمَّا التَّحليل بذاتهِ فبحاجةٍ إِلى شرُوطٍ عدَّةٍ ترتكز أَوَّلاً وقبل كلِّ شَيْءٍ على شخصيَّة المحلِّل وفيما إِذا كان يتمتَّع بالقدُرات الذهنيَّة والإِرادة والرَّصيد الشَّخصي الذي يمكِّنهُ من أَن يكونَ محلِّلاً سياسيّاً حقيقيّاً لا يستنسخ ولا يكرِّر أم لا.

هذا لا يقلِّل من أَهميَّة حريَّة التَّعبير أَبداً فهي حجر الزَّاوية في النِّظام الديمقراطي كما أَنَّها حجر الزَّاوية في صناعةِ الوعي والرَّأي العام.

أَمَّا شروط التَّحليل السِّياسي السَّليم فهي:

١/ المعلومة الصَّحيحة، فكيف سيكونُ التَّحليلُ إِذا اعتمدَ على المعلوماتِ التي تنشرها الجيوش الإِليكترونيَّة في وسائل التَّواصل الإِجتماعي، أَو على معلومات الأَحزاب والكُتل والميليشيات المُتصارِعة؟!.

سيكونُ كما هو عليهِ الآن، بائس وساذج ومضلِّل، لا قيمةَ لَهُ من النَّاحية العلميَّة والمهنيَّة والواقعيَّة.

أُنظر لبعض التَّحليلات السياسيَّة، كم مرَّة أَشعلت نيران الحرب الثَّالثة؟ وكم مرَّة أَشعلت الحرُوب بين دُول المنطقة؟ من دونِ أَن يحصلَ شيءٌ منها طبعاً، لأَنَّها في كلِّ مرَّةٍ تعتمدُ على معلوماتٍ تافهةٍ، تُحلِّبها بشَكلٍ مُتهافِت! بل هي أَكاذيب وفبركات لا قيمةَ لها، ولذلك أَخفق المحلِّلون [الإِستراتيجيُّون] في صياغةِ تحليلٍ سياسيٍّ سليمٍ ومعقولٍ.

٢/ الخلفيَّة السياسيَّة [الثَّقافة والفكر السِّياسي] فإِذا كان المحلِّل السِّياسي جاهلا سياسيّاً لم يقرأ التَّاريخ ولَم يطَّلع على النظريَّات السياسيَّة، فكيف ستكونُ تحليلاته العبقريَّة؟!.

٣/ المُتابعة السياسيَّة، وهي التي تكمِّل الخلفيَّة السياسيَّة، فإِذا اعتمد المحلِّل على خلفيَّتهِ فسيكونُ منظِّراً طوباويّاً لا أَكثر، لا تُلامس تحليلاتهِ الواقع، كما أَنَّهُ إِذا اعتمد على المُتابعة اليوميَّة فقط فسيخطأ في إِستنتاجاتهِ، لأَنَّ كلَّ حدثٍ سياسيٍّ لَهُ خلفيَّة لا يمكن أَن ينزل علينا من السَّماء أَو ينبُت في الأَرض.

٤/ الرُّؤية السياسيَّة، فالمحلِّل السِّياسي الذي لا يمتلك رؤيةً سياسيَّة سيكونُ كالببغاء يكرِّر ما يقولهُ الآخرون ولا يُبدع، أَو أَنَّهُ يقدِّم تحليلاً بِلا هدفٍ أَو رسالةٍ.

ويُخطئ من يتصوَّر أَنَّ هناكَ في هذا العالَم محلِّلون سياسيُّون بِلا رسالةٍ، إِلَّا أَن يكونُوا أَغبياء!.

٥/ اللُّغة السياسيَّة، وهي التي تختلف عن اللُّغة الإِعلاميَّة، ومن خلال المُتابعة يظهر بشَكلٍ واضحٍ أَنَّ الكثير من المحلِّلين يخلطُون بين اللُّغتَين، فالمادَّة التي يقدِّمونها لا هي تحليلٌ سياسيٌّ ولا هي تقريرٌ إِعلاميٌّ.

وبهذا الخلط وعدم التَّمييز يضيعُ نتاجهُم.

٦/ الحياديَّة، فبمجرَّد أَن يميل المحلِّل إِلى جهةٍ سياسيَّةٍ ما يفقد مصداقيَّته، لأَنَّهُ سيبذُل جُهدهُ لإِقحام التَّحليل حتى إِذا لم يعتقِد بهِ!.

طبعاً من دونِ أَن تعني الحياديَّة التخلِّي عن الرِّسالة التي تحدَّثنا عنها للتَّو.

للأَسف الشَّديد فإِنَّ الصِّراعات السياسيَّة والحزبيَّة تترك بظلالِها على طبيعة إِنتاج المحلِّلين السياسيِّين بدرجةٍ كبيرةٍ ولذلكَ يصعب الوثوق عليها.

إِنَّ إِفتقار التَّحليل السِّياسي للحَياديَّة جعلهُ عاجزاً عن صِناعة رأيٍ عامٍّ أَو حتَّى التَّأثير بهِ.

٧/ حريَّة التَّعبير، وهو الأَمرُ الذي نفتقدهُ في ساحتِنا بشَكلٍ واضحٍ، إِذ أَنَّ وجودَ خطوطٍ حمراء كثيرة وإِنتشار الأَلغام في حقلِ التَّحليل السِّياسي يُفلتر الكثير من حياديَّة وبالتَّالي صدقيَّة المُحلِّل السِّياسي.

٨/ المُتلقِّي، وهو الشَّرط الذي نادراً ما يأخُذهُ المُحلِّل السِّياسي بنظرِ الإِعتبار، كما لو أَنَّ تاجراً يعرض بضاعتهُ في غَير السُّوق المطلوبة.

ولكلِّ شرطٍ من هَذِهِ الشُّروط تأثيرٌ مُباشرٌ على جَودة أَو رداءة التَّحليل.

للأَسف الشَّديد فإِنَّ أَغلبيَّة المُحلِّلين السياسيِّين عندنا يفتقرُون إِلى واحدةٍ أَو أَكثر من هَذِهِ الشُّروط.

وبعضها مُشتركٌ، فحريَّة التَّعبير صعبةٌ ولا أَقولُ غير موجُودة ولذلك فعندما يُرِيدُ أَن يحلِّل المرء حدثاً يجد نفسهُ مُحاطاً بخطوطٍ حمراء كثيرةً عليهِ أَن يلتزم بها ولا يتجاوزها، بل ويحترمها، سواءً كانت [مُقدَّسات] مصنوعة أَو [قادة ضروريِّين] أَو غير ذلك، وفِي كثيرٍ من الأَحيان يَكُونُ إِلتزامهُ بها على حسابِ قناعاتهِ ورُؤيتهِ.

كما أَنَّ غَياب الحسِّ الوطني مُشتركٌ آخر، فالمحلِّل عادةً يميلُ بتوجُّهاتهِ إِلى طرفٍ من الأَطراف سواء الداخليَّة او الإِقليميَّة ما يجعل من تحليلهِ مُنحازاً.

ولا يختلفُ إِثنان على أَنَّ الخلافات والإِنقسامات السياسيَّة وغيرها تركت أَثراً كبيراً على رداءةِ التَّحليل السِّياسي عندنا.

فضلاً عن أَنَّ حالة الإِرباك والفوضى التي نعيشها هي الأُخرى جعلت من التَّحليل السِّياسي متقلِّباً وغير مُستقر، وكأَنَّ المُحلِّل يركب الأَمواج العاتيةِ في عِباب البحرِ، إِذ نادراً ما يتمكَّن المحلِّل من قراءة السَّاحة والحدث بشَكلٍ سليمٍ ومُستقر.

nazarhaidar1@hotmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق