غالباً ما تجنح الحركة السياسية حين تكون خارج السلطة في البلدان النامية ومنها البلدان العربية إلى رفع أكثر الشعارات جذرية ورنيناً، فهي تبدأ من إسقاط النظام، دون أن تأخذ بالحسبان توازن القوى أو تحسب حساباً للظرف الموضوعي والذاتي، فإمّا أن تضخّم من إمكاناتها الذاتية أو تقلّل من إمكانات خصمها...

غالباً ما تجنح الحركة السياسية حين تكون خارج السلطة في البلدان النامية ومنها البلدان العربية إلى رفع أكثر الشعارات جذرية ورنيناً، فهي تبدأ من “إسقاط النظام”، دون أن تأخذ بالحسبان توازن القوى أو تحسب حساباً للظرف الموضوعي والذاتي، فإمّا أن تضخّم من إمكاناتها الذاتية أو تقلّل من إمكانات خصمها، وقد يقودها ذلك إلى “حرق المراحل” لأن “التغيير” لن يتحقق دون حصول التراكم المطلوب والتطوّر التدرّجي وتلبية المطالب التي تخصّ الناس وصولاً إلى الهدف الأساسي.

وإذا كان المبرّر أن الأنظمة لا تستجيب للمطالب الشعبية وتدير ظهرها للإصلاح وتعزف عن التغيير وترفض الحوار مع الفاعليات والأنشطة السياسية غير الحاكمة، فإن ذلك لا ينبغي أن يدفعها إلى التشدّد والتطرّف والعنف، لأن اللجوء إليه يقود إلى العزل والعزلة حتى من لدن أوساط تتّفق معها حول قضايا الإصلاح والتغيير، كما أنه ليس مبرراً التعاون مع قوى خارجية، مهما كانت تسمياتها بحجة عجزها عن تحقيق مطالبها لوحدها.

إن ازدراء المطالب الاحتجاجية واستصغارها والاستخفاف بها، والقفز مرّة واحدة إلى القضايا الكبرى والأهدالف الستراتيجية هو الذي يجعل الخلل في العمل السياسي ظاهرة شائعة، لاسيّما باستسهال رفع الشعارات الصخّابة، فتبليط شارع أو بناء مدرسة أو إنشاء مستوصف أو مستشفى في حي أو ضاحية أو خفض الضرائب أو توسيع مجالات الاستفادة من الضمان الاجتماعي والتقاعد والعناية بالمسنين وحماية الطفولة والأمومة وتعزيز حقوق المرأة وإيجاد فرص عمل للشباب وكل ما يتعلق بتحسين مستوى المعيشة، هي هموم مطلبية وجزئية، ولكنها أساسية لسير عجلة الحياة، وهي التي ينبغي أن ينشغل بها العمل السياسي العربي في مختلف البلدان، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، لأن مهمة تحسين الحياة المادية والروحية للإنسان، تبقى مطالب يومية متراكبة ومتخالفة ومتطوّرة تنمو باستمرار وتتشعّب وتتسع، وتحتاج من جانب السلطة ومعارضتها والمجتمع المدني وأصحاب الأعمال، التعاون لتلبية ما هو ممكن منها ضمن خطط تنموية مستدامة.

إن أي تطوّر يحتاج إلى تراكم، حتى وإنْ كان بطيئاً، لاسيّما في مجالات أساسية، مثل: التعليم والصحة والخدمات والعمل والضمان الاجتماعي ومجال الحريات والحقوق، وعكس ذلك فإن البلدان التي حاولت اختزال التطوّر بانقلابات وثورات وتغييرات سريعة، وبالقوة أو عبر الوسائل المسلحة والعنفية بغض النظر عن اضطرارها بسبب تشبث الأنظمة السياسية، وصلت لاحقاً إلى طريق مسدود حتى وإن حقّقت مكتسبات مرحلية لا يمكن الاستهانة بها، لكنها ارتدّت على أعقابها لاحقاً، الأمر الذي أضاع سنوات من التنمية وعطّل المسار التدرّجي والتاريخي لها. وإذا تمكّنت تلك البلدان عبر الثورات من إحداث نمو اقتصادي وتطور في مجالات صناعية وزراعية عديدة، فإنها اصطدمت لاحقاً بعقبات كبرى، خصوصاً في الجوانب المدنية والسياسية والإنسانية وتجربة البلدان الاشتراكية وأنظمة ما أسمياه ” حركة التحرر الوطني” خير دليل على ذلك.

إن الأهداف الكبرى هي أهداف عادلة ومشروعة، لكنها ليس يومية أو آنية أو راهنية، إلّا إذا استثنينا تحرير الأراضي وصدّ العدوان وتحقيق الاستقلال وحق تقرير المصير، لكن ذلك لا يمنع من وضعها ضمن البرامج المستقبلية، فالملحّ والضروري والذي لا يقبل التأجيل، هو تحسين حياة الناس وإيجاد فرص عمل والقضاء على الأميّة وتامين المستلزمات الضرورية للصحة والبيئة ومكافحة الفساد المالي والإداري، ومواجهة التعصّب والتطرّف، والعنف وتحقيق التعايش السلمي والمجتمعي.

ويحتاج الأمر إلى إصلاح نظم الحكم والإدارة وتعزيز وتطوير حكم القانون الذي يقول عنه مونتسكيو ” إنه مثل الموت لا يفرق بين الناس”، خصوصاً بوجود قضاء نزيه ومستقل وإجراء مصالحة حقيقية بين السلطات الحاكمة وشعوبها بضمان الحقوق الجماعية والفردية، وتلك مسؤولية مشتركة وإن كانت درجاتها متفاوتة، ولكن شراكة المجتمع المدني ورقابته مسألة في غاية الأهمية، لاسيّما مساهمته في صنع القرار وفي تنفيذه، كما أن من واجبه أن يتحوّل إلى ” قوة اقتراح” وليس “قوة احتجاج” فحسب.

لعل مناسبة الحديث هذا هو انعقاد “مؤتمر فكر 16″ الموسوم ” تداعيات الفوضى وتحدّيات صناعة الاستقرار الذي نظّمته” ” مؤسسة الفكر العربي” في دبي، والذي خصّص أحد جلساته لمناقشة ” اختلال آليات العمل السياسي”، خصوصاً حين يتم اللجوء إلى العنف لحلّ الخلاف بين الحاكم والمحكوم تلك التي ستلحق ضرراً بالمجتمع ككلّ، لاسيّما وإن دورات العنف والفعل ورد الفعل إذا ما استحكمت بالمتصارعين فإنها ستزرع ألغاماً يمكن أن تنفجر في كل لحظة لتدمّر ما بنتّه سواعد الأجيال، وهو ما كان محط مراجعة مهمة من عدد من المسؤولين وأصحاب القرار وقادة الفكر والأكاديميين في هذا المؤتمر. تلك المراجعة التي تحتاج إلى حوار مجتمعي ومن موقع نقدي لرسم مشروع نهضوي عربي جديد لإنسان عربي جديد وثقافة جديدة، وهو العنوان الأساس لمؤتمر “فكر” هذا العام.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق