الرياح العاتية التي هبّت فوق مياه الخليج ومضيق هرمز خلال الأسابيع القليلة الفائتة، لم تمنع دوله المتشاطئة من تبادل رسائل الغزل من تحت مياهه أن أمراً كهذا يحدث لأول مرة منذ سنوات طوال، أما المفارقة الثانية، فهي أنه يحدث في وقت بلغ فيه التوتر حافة الهاوية...
الرياح العاتية التي هبّت فوق مياه الخليج العربي ومضيق هرمز خلال الأسابيع القليلة الفائتة، لم تمنع دوله المتشاطئة من تبادل "رسائل الغزل" من تحت مياهه... المفارقة الأولى؛ أن أمراً كهذا يحدث لأول مرة منذ سنوات طوال، أما المفارقة الثانية، فهي أنه يحدث في وقت بلغ فيه التوتر "حافة الهاوية".
الإمارات العربية المتحدة، كانت السبّاقة على هذا المضمار... صمتت لاثنتي عشرة ساعة عن استهداف الناقلات الثلاث في ميناء الفجيرة، وامتنعت عن توجيه الاتهام مباشرة لإيران، هذا الموقف عُدّ رسالة "حسن نيّة" لطهران، وتعبيراً عن الرغبة في منع الانزلاق إلى مواجهة شاملة... وفي مسار موازٍ كانت الدولة الخليجية الثرية تبعث بوزير خارجيتها إلى موسكو طلباً لدور روسي أكبر في احتواء الموقف، قبل وقوع الانفجار الكبير... وعلى المسار اليمني "الموازي" لمسارات الأزمة الأخرى مع إيران، كانت الإمارات تعلن عن الشروع في سحب / إعادة انتشار قواتها من هناك، وتكشف عن "استراتيجية صنع السلام" بدلاً عن "استراتيجية الحسم العسكري" في اليمن.
مصادر مطلعة تحدثت عن "قنوات اتصال خلفية متعددة" نشطت بين أبو ظبي وطهران في الأسابيع الأخيرة، إحداها تمثلت في "القناة العُمانية" وأهمها "القناة الروسية"... وأن الجهود الدبلوماسية أثمرت عن لقاء هو الأول من نوعه منذ العام 2013، جمع قائد قوات خفر السواحل الإماراتي العميد محمد علي مصباح الأحبابي بنظيره الإيراني العميد قاسم رضائي، في العاصمة الإيرانية... أبو ظبي سعت في "نزع" أي صفة سياسية للقاء، فيما عمدت طهران إلى تضخيم دلالاته ومراميه، إلى حد الحديث عن بداية تحوّل في السياسة الإماراتية حيالها وحيال بعض أزمات المنطقة، في إشارة لليمن.
على خط اقتصادي موازٍ، كانت التقارير تتحدث عن رغبة إيرانية – إماراتية مشتركة، لتسهيل حركة انتقال الأموال عبر المصارف وشركات الصرافة بين البلدين، واستعادة حركة التبادل التجاري بينهما إلى سابق عهدها، حيث بلغ الميزان التجاري في سنوات ما قبل الأزمة الأخيرة، إلى ما يقرب من 17 مليار دولار.
السعودية تلحق بالإمارات
المملكة العربية السعودية، التي لا شك ساورها القلق من "انفراد" حليفتها بانتهاج سياسات غير منسقة معها في الملف اليمني على وجه التحديد، سارعت بدورها إلى إرسال عدة رسائل تستبطن "حسن النوايا"، فقد أفرجت من دون شروط، عن السفينة الإيرانية التي أصابها عطل واقتادتها البحرية السعودية إلى موانئها بغرض إصلاحها... واستقبلت الحجيج الإيراني بالورود والقهوة العربية على غير عادة، فيما الأنباء تحدثت عن رسالة بعثت الرياض إلى طهران، عبر الراعي السويسري للمصالح السعودية في طهران والمصالح الإيرانية في الرياض بعد انقطاع العلاقات بين البلدين في يناير/كانون الثاني عام 2016... الرسالة لم يُكشف فحواها بعد، لكن تصريحات الوزير الإيراني المرحبة بميل السعودية للدبلوماسية في التعامل مع إيران، وتأكيد استعداد بلاده لمقابلة أي خطوة إيجابية سعودية بخطوتين إيجابيتين، أعطى انطباعاً عن مضمون الرسالة، كما أن انشغال الإعلام الإيراني بالتصريحات التي أدلى بها المندوب السعودي لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي والتي كشف فيها عن مقاربة سعودية أكثر انفتاحاً على إيران، تدفع على الاعتقاد بأن ثمة ريحاً جديدة تهب على الخليج العربي/الفارسي بضفتيه.
انعطافة تكتيكية أم تحوّل استراتيجي؟
من الصعب التكهن من الآن، ما إن كان هذا "الغزل المتبادل" بين ضفتي الخليج هو انحناءة تكتيكية هدفها تفادي الانزلاق في أتون حربٍ لن تبقي ولن تذر في حال اندلاعها، أم أنها بداية قناعة متبادلة لدى هذه الأطراف، بأن "حرب الإلغاء والتحجيم" لن تصل بأطرافها إلى أي مطرح، وأن سياسة "هدم المعبد" قد تصيب بتداعياتها الخطرة الجميع من دون استثناء، وأن لا "رابح" في هذه المواجهة العبثية، طالما أن التاريخ والجغرافيا معاً، لا يعملان لصالح فريق بعينه وبالضد من الفريق الآخر.
كما أنه من الصعب التنبؤ من الآن، ما إذا كانت "نسمات الغزل" العابرة للخليج والمضيق، ستتغلب على "رياح حروب الوكالة العاتية" التي تعصف بدول ومجتمعات عربية عديدة، وتلعب الدول ذاتها، دور الداعم والمساند للقوى والمليشيات المحلية فيها، لكن إن حصل تطور كهذا، فالأرجح أن يكون اليمن، هو المستفيد الأول من التغير في العلاقات بين ضفتي الخليج، إن سار الحال على ما يرام.
يمكن إدراج جملة من الأسباب وراء هذه "الانعطافة/التحوّل"، الذي بدأ بالإمارات وبدا واضحاً في مواقفها وسياساتها الأخيرة، في حين لم يصدر عن السعودية حتى الآن، سوى إرهاصات ومؤشرات أولية دالّة عليه، من بينها:
(1) تجربة الفشل في اليمن بعد دخول الحرب عليه عامها الخامس، وتحول "الحوثي" إلى مصدر تهديد للداخل السعودي والإماراتي (حرب المطارات في جنوب السعودية، استهداف منشآت لأرامكو) والتحليق فوق مطاري أبو ظبي ودبي بطائرات مسيّرة والتهديد باستهدافها...
(2) خشية هذه الدول من تحوّل مدنها ومنشآتها إلى ميادين لأي حرب خليجية قادمة، مما يتهدد بأوخم العواقب، ثمار أربعين عاماً أو يزيد من التنمية والتفوق، سيما بعد التهديدات الإيرانية الجازمة...
(3) والأهم من كل هذا وذاك، خشية هذا الدول من تخلي الحليف الأمريكي عنها، سيما مع تنامي "الإلحاح" الأمريكي على طلب التفاوض مع طهران، وتوالي التصريحات التي تصدر عن الرئيس دونالد ترامب مبشراً فيها بازدهار لإيران إن تخلت عن برنامجها النووي العسكري، في ظل نظامها القائم، و"جعلها عظيمة ثانية".
إن إدراك دول الخليج للحدود الضيقة التي تتحرك في إطارها "القوة العسكرية" الأمريكية، وإصرار واشنطن على تفادي توجيه ضربات ساحقة لإيران، جعلها تخشى حرب استنزاف طويلة الأمد تطالها أولاً، قبل غيرها، وأكثر من غيرها.... من دون أن تتوفر على أية ضمانات من أي نوع، بأن واشنطن جادة في "خنق" نظام الملالي، أو مستعدة للدخول في مغامرة إسقاطه.
ولا شك أن هذه الدول، لاحظت بقلق بالغ، امتناع واشنطن عن حشد قوة قتالية وازنة وكافية لردع طهران وسلبها قدرتها على "الرد بقسوة" على خصومها... كما أن مشاعر القلق والإحباط ربما تكون خيمت على هذه العواصم، بعد أن تابعت إخفاق الولايات المتحدة في بناء تحالف دولي عريض لكبح إيران، بل وفشلها في إقناع حلفائها الأوروبيين واليابانيين الأساسيين، في الانضمام لقوة بحرية هدفها حفظ الملاحظة في بحر عمان ومضيق هرمز والخليج... لقد أدركت هذه الدول، أن العالم في العام 2019 لم يعد كما كان عليه في عامي 1990 و2003.
من سيقطف الثمار؟
هنا، وعند هذه النقطة بالذات، بدأت أطراف دولية تكثف مساعيها للوساطة لتخفيف حدة التوتر، ودفع الأطراف للتراجع خطوة واحدة على الأقل، عن "حافة الهاوية"... ولم تقتصر جهود الوساطة ومساعيها الحميدة على واشنطن وطهران، بل سلكت مساراً إقليمياً موازياً، وتحركت على خط العواصم المشاطئة للخليج العربي/الفارسي، فموسكو على سبيل المثال، أطلقت مبادرتها "نحو منظومة إقليمية للأمن والتعاون"، والتي تبني على مقترح إيراني بتوقيع معاهدات عدم اعتداء بين إيران ودول الخليج العربية... ويُعتقد على نطاق واسع، أن الحراك الروسي، بات اليوم منسقاً إلى حد كبير، بل ومرحباً به من قبل أطراف عربية وإقليمية عديدة، من بينها معظم دول الخليج إن لم نقل جميعها.
وعلى مسار موازٍ، ولكن من ضمن محاولات التهدئة ونزع فتيل التوتر، تحركت الدول الموقعة على اتفاق النووي (باستثناء الولايات المتحدة) لتسريع البحث في خلق آلية جديدة للتعامل التجاري مع إيران (اجتماع فيينا مختتم الشهر الفائت)، حيث عبر المشاركون كافة، بمن فيهم الوفد الإيراني، عن الارتياح لمداولات الاجتماع الوزاري ونتائجه.
خلاصة القول، العالم بأسره لا يريد حرباً خليجية رابعة، ودول المنطقة التي انتهجت سياسات قائمة على "مقابلة التحدي بالتحدي" بدأت تجنح اليوم نحو التهدئة والمرونة، إيران بسبب الخشية من الحرب والرغبة في الخروج من عنق زجاجة الحصار والعقوبات الصارمة... ودول الخليج بسبب الخشية من الحرب كذلك، والرغبة في تفادي أكلافها الباهظة... فهل آن الأوان لكي تصمت المدافع ويتوقف قرع طبول الحرب، وهل بدأت منطقة الخليج، تبحث عن مسار سياسي – تفاوضي، للأمن والتعاون، بدل الحروب العبثية ذات الكلفة الباهظة إنسانياً وعسكرياً ومالياً واقتصادياً، الممتدة منذ أربعة عقود والمرشحة للاستمرار لعقود أربعة قادمة؟
اضف تعليق