اولاً توحيد القوى المدنية والتقدمية في جبهة تلزم نفسها بميثاق عمل وطني يتبنى استراتيجية علمية تطّبق على مراحل بما يحقق العدالة الاجتماعية للناس ويستعيد مكانة وهيبة الدولة العراقية، وثانياً توحيد المثقفين في برنامج يستهدف اشاعة الوعي الانتخابي والتبشير بالمستقبل، والتوقف عن اشاعة ثقافة التيئيس، ومعالجة عقدة الانا...

يشترك حكّام العراق ونيسلون مانديلا بصفة انهم (مناضلون سياسيون) مع انهم لم يتعرضوا لسجن دام 27 عاما في اشغال شاقة وحياة قاسية كالتي تعرض لها مانديلا، ويشتركون ايضا في انهم تولوا السلطة وأصبحوا حكاما بغض النظر عن وسيلة او اداة التغيير، هذه المقالة تتحدد بمقاربات بين نيلسون مانديلا حين أصبح حاكما لجنوب افريقيا وبين حكام العراق الذين استلموا السلطة في 2003.

الحاكم القدوة

تمتاز شخصية مانديلا بانه كان يمثل الحاكم القدوة في انتمائه الخالص لوطنه وفي حبه لكل ابناء شعبه بغض النظر عن اللون والعرق والجنس، نجم عنها ان تعززت لدى المواطنين الافارقة سيكولوجيا التماهي، اي التوحّد بشخصية القدوة والتحلي بصفاته والاقتداء بافعاله. وباستثناء عبد الكريم قاسم فان السلطة في العراق بعد الجمهورية الاولى لم تفرز حاكما قدوة. ومقاربة بين مانديلا وحكّام ما بعد التغيير 2003 نجد ان مانديلا اصلح الشخصية الجنوبية الافريقية وبعث فيها، حين استلم السلطة ، قيمه وحب الآخر للاخر والوطن ،فيما السلطة الحالية في العراق افسدت الشخصية العراقية..اقبحها اشاعة التعصب للهوية الطائفية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا الابرياء..والتي قادت احزاب الاسلام السياسي الى خطيئة كبرى على صعيد الدولة بأن تحولت وزارات الدولة الى (دويلات) كل وزارة فيها (حصة) او تابعة الى حزب او تكتل او عشيرة،نجم عنه فشل الحكومة في ادارة شؤون الدولة والناس.

ونلفت الانتباه هنا الى قضية سيكولوجية خطيرة تخص التعصب.

ان المتعصب، في تحليلنا، شخص مصاب بالحول الادراكي او قل عنه( احول عقل)،ونعني به انه يعزو الصفات الإيجابية إلى شخصه وجماعته التي ينتمي إليها، ويعزو الصفات السلبية إلى الجماعة الأخرى التي يختلف عنها في القومية أو الطائفة أو الدين.والمؤذي فيه انه في حالة حصول خلاف أو نـزاع بين الجماعتين فإنه يحّمل الجماعة الأخرى مسؤولية ما حدث من أذى أو أضرار، ويبرئ جماعته منها، حتى لو كانت شريكاً بنصيب اكبر في أسباب ما حدث..وهذا ما دفعنا ثمنه ضحايا وفواجع.

خدمة الناس واعمار الوطن

عمل مانديلا على اعادة هيكلة البناء الاقتصادي ومؤسسات الدولة بما يخدم ابناء شعبه ويحقق حياة كريمة للمواطن وازدهارا للوطن في مدة حكمه القصيرة (1994-1999).وباستثناء عبد الكريم قاسم الذي اعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة،ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته،وحقق حياة جيدة للمواطن العراقي وعمل على اعمار الوطن،واحمد حسن البكر الذي حقق في السبعينيات وضعا اقتصاديا مثاليا للعراقيين،وجرى اعمار شامل للوطن،فأن حكّام ما بعد التغيير اعتبروا العراق غنيمة لهم فاستفردوا بالسطة والثروة ،وازداد الوطن في زمن حكمهم خرابا وازداد الناس فقرا وبؤسا مع انهم حكموا (16)سنة!.

القيم الاخلاقية

يمثل مانديلا انموذجا في القيم الاخلاقية لأنه كان يدرك ان الناس ينظرون له بوصفه قدوة،وان القدوة يجب ان يكون انموذجا في القيم،ويدرك حقيقة سيكولوجية اخرى هي ان القيم هي التي تحدد اهداف وافعال الناس.واذا استثنينا عبد الكريم قاسم واحمد حسن البكر،فان زمن حكّام ما بعد التغيير شهد تدهورا مريعا في الاخلاق اخطرها ان المواطنة،بوصفها قيمة اخلاقية،التي كانت شائعة في الأنظمة الملكية والجمهورية،انهارت بزمن الطائفيين،وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن..وتلك كانت وما تزال أخطر قيمة اخلاقية خسرها العراقيون،فضلا عن التفكك الاسري وتضاعف حالات الطلاق وشيوع النفاق لاسيما النفاق الديني والتملق السياسي والوصولية، ونجاحهم في اقامة ديمقراطية جماهير مغيب وعيها وغير نزيهة.

الفساد

يمثل مانديلا انموذجا للحاكم النزيه الذي لم يستغل منصبه في اثراء غير مشروع.غير اننا نمتلك حاكما واحدا في تاريخ العراق يمثل انموذجا يفوق مانديلا في النزاهة هو عبد الكريم قاسم.فالرجل عاش براتبه وما امتلك رصيدا في البنك،وما كان له قصر او بيت لرئيس الجمهورية،بل كان ينام بغرفة بوزارة الدفاع..ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او مسؤول على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة،فيما حكّام اليوم يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية،لو جرى تخفيضها بنسبة 50% لوفرت للدولة "14 مليار دولار سنويا!..وفقا للخبير الاقتصادي ابراهيم المشهداني".

والأقبح على الصعيد الاعتباري للحاكم والاخطر سيكولوجيا على المجتمع هو:تبادل الاتهامات بالفساد بين رجال دين صاروا مسؤولين،وتورّط رجال دين آخرين باعمال تحسب على الارهاب،وتناقض افعال مسؤولين (دينيين)في السلطة مع اقوالهم،وعدم امتثالهم لتوجيهات ونصائح المرجعيات الدينية..نجم عنها انها اوصلت الفرد العراقي الى حوار داخلي مع النفس:(اذا كان اهل الدين ومن يفترض بهم ان يكونوا قدوة،غير ملتزمين بالقيم الدينية فما الذي يدعوني انا الانسان البسيط الى الالتزام بها..وقد ضاقت بنا سبل الحياة؟).

الكرسي وسيكولوجيا الخليفة

تولّى مانديلا السلطة لدورة واحدة(1994–1999) وغادر كرسي الحكم رافضا الترشح لدورة ثانية،فيما تتحكم في الحاكم العربي سيكولجيا الخليفة في التمسك بالبقاء على الكرسي الى يوم يخصه عزرائيل بالزيارة في حال ينطبق عليه تبرير نزار قباني:

كلما فكرت ان اتركهم

فاضت دموعي كغمامة

فتوكلت على الله

وقررت ان اركب الشعب

من الان الى يوم القيامة.

أغنى بلدين: في مفارقتين

تمتاز جنوب افريقيا انها اغنى دولة في القارة الافريقية،وكان الافارقة يعيشون تحت نير الفقر والبؤس،فنقلهم مانديلا ورفاقه بالتعاون مع القوى التقدمية والحزب الشيوعي الافريقي الى العيش بحياة كريمة وتقدم حضاري والانشغال بتحقيق مستقبل افضل.

ويمتاز العراق بانه اغنى دولة في اسيا،فيما اذلّ شعبه حكاّم الخضراء واحزاب الاسلام السياسي،واوصلوا اكثر من خمسة ملايين الى ما دون خط الفقر،واشاعوا التفكير الخرافي،واشغلوا الناس بالماضي لينسوا بؤس الحاضر.

المقاربة الاخيرة

حكمت جنوب افريقيا حكومة اقلية بيضاء استفردت بالسلطة والثروة والامتيازات، وتحكم العراق حاليا حكومة اقلية خضراء استفردت ايضا بالسلطة والثروة والامتيازات.وقد حدد مانديلا اربع وسائل للتخلص من حكومة الاقلية:تخريب، حرب عصابات، ارهاب،وثورة مفتوحة..بدأها بالتخريب بعد ان يئس من التظاهرات والاحتجاجات السلمية والاعتصامات والاضراب عن العمل.

فأي من تلك الوسائل تمكّن العراقيين التخلص من حكومة اقلية استفردت بالسلطة والثروة والامتيازات واستهانت بالشعب بعد ان جرّب التظاهرات والاحتجاجات منذ شباط 2011 دون جدوى؟

الجواب، لا وسيلة من جميعها تنفع، وليس امام العراقيين غير وسيلة واحدة في متلازمتين:

الاولى: توحيد القوى المدنية والتقدمية في جبهة تلزم نفسها بميثاق عمل وطني يتبنى استراتيجية علمية تطّبق على مراحل بما يحقق العدالة الاجتماعية للناس ويستعيد مكانة وهيبة الدولة العراقية.

والثانية: توحيد المثقفين في برنامج يستهدف اشاعة الوعي الانتخابي والتبشير بالمستقبل، والتوقف عن اشاعة ثقافة التيئيس، ومعالجة عقدة (تضخم الانا) التي تتحكم في كبار المثقفين العراقيين، فهل سيحصل هذا؟..تلك هي مهمة المثقفين عبر التاريخ،والمثقفون العراقيون كانوا في الطليعة..وسيبقون..ونرجو ان لا يكون حالنا حال (غودو الذي يأتي ولا يأتي!).

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق