ان تحول حزب ما او تنظيم من الحالة العسكرية، ومن الاعتقاد التام بلغة السلاح، الى الحالة المدنية واعتماد الفكر والثقافة في الاصلاح والتغيير والبناء، لا يتم بإنزال لافتة ورفع اخرى، او بتغيير الاسماء وحسب، وانما يحتاج الامر الى تغيير منهجي وحقيقي...
ربما يكون قدر العراق امتزاج لغة السلاح مع مسيرة التاريخ السياسي والاجتماعي منذ أمد بعيد لتنتج لنا ثورات مسلحة، وانقلابات عسكرية، وحروب، ثم ليكون هذا النتاج الغريب مادة تغذي جسد المجتمع؛ افراداً وجماعات، فبعد العشائر والقبائل التي تعد السلاح جزءاً من أدوات حياتها، نجد اليوم بعض الاحزاب والتنظيمات السياسية تتوسل بالسلاح لتحقيق اهدافها.
السلاح وسيلة دفاعية بيد الشعوب
لهذا السبب –بالدرجة الاولى- ساد الاعتقاد، بل والايمان بأحقية حمل السلاح للدفاع عن الارض والمقدسات، وايضاً للمطالبة بالحقوق المشروعة، وعليه لابد من الإقرار بجانبه الايجابي، بيد أن هذا الجانب ليس بالضرورة يجسده تنظيم او حزب يدّعي الحظوة من الكيان الاجتماعي، إنما هو خيار لجماهير الشعب بأسره، فعندما يتعرض شعب ما لتهديد عسكري خارجي، كالذي حصل في العراق عام 2014 فهل ينتظر الشعب العراقي من تنظيم سياسي ليحرك جناحه العسكري ليتصدّى لعناصر تنظيم داعش؟ نعم؛ حشود المتطوعين، والتبرعات والدعم اللوجستي من جهات مختلفة، تحتاج الى تنظيم و ادارة حتى لا يحصل الهدر في هذه القدرات، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الاحوال التصاق التنظيم الذي يفترض ان يكون سياسياً، بالسلاح ويجعله شعاراً وهوية له، حتى يكاد ان يتحول الى حالة "مليشياوية".
وهناك من يعتقد أن وجود السلاح بيد الاحزاب العراقية يمثل وسيلة ردع امام التحديات الخارجية، من شأنه أن يحد من التوسع والنفوذ؛ سياسياً وعسكرياً، كما يحصل مع الوجود الاميركي في العراق، بيد إن هذا الرأي ربما يسفر عن مضاعفات سلبية على العراق، قبل ان يحقق منجزات معينة منها؛
أولاً: تكريس مقولة غياب الدولة، والكشف عن المناطق الرخوة في المؤسسات العسكرية والامنية على وجه التحديد في ظل التجاذبات الاقليمية والدولية منذ الاجتياح الاميركي عام 2003والاطاحة بنظام صدام، وفي مرحلة لاحقة؛ نزع أي مصداقية للدعوات المتكررة بحصر السلاح بيد الدولة، إذ إن من علائم وجود الدولة على الارض، وجود المؤسسة العسكرية الى جانب المؤسسة الامنية الخاضعة لقوانين تخدم الصالح العام، فهي الوحيدة التي تملك السلاح مع تخويل استخدامه في الحالات المطلوبة.
وثانياً: وهو الأهم على الصعيد الداخلي؛ فقدان الطابع المدني للاحزاب والتنظيمات المعمول بها في العالم، فالاحزاب السياسية إما تكون جماهيرية تتطلع الى تحقيق مصالح الجماهير المؤيدة لها من خلال الانتخابات والدخول في أجهزة الدولة، وإما تكون نخبوية تتخذ من الايديولوجيا شعاراً وهدفاً لها، وهذا أخطر ما يمكن ان تتعرض له احزاب سياسية في أي بلد، وربما تتحول الى ما وصلت اليه الاحزاب والتنظيمات الافغانية التي نقلت خبرتها العسكرية من حربها الدفاعية ضد الغزو السوفيتي في سني الثمانينات، الى الحرب الأهلية في فترة التحرير، متخذة السلاح "المجاهد" وسيلة للوصول الى السلطة، حتى بلغ الأمر لأن تتعرض العاصمة كابول في عهد أول حكومة للمجاهدين في بداية التسعينات الى قصف مدفعي من قوات تابعة للحزب الاسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار، وذلك في ايام شهر رمضان!
التحول الحقيقي من الحالة العسكرية الى المدنية
ان تحول حزب ما او تنظيم من الحالة العسكرية، ومن الاعتقاد التام بلغة السلاح، الى الحالة المدنية واعتماد الفكر والثقافة في الاصلاح والتغيير والبناء، لا يتم بإنزال لافتة و رفع اخرى، او بتغيير الاسماء وحسب، و انما يحتاج الامر الى تغيير منهجي وحقيقي، ربما لا يتم بين ليلة وضحاها، فهو مطلوب في كل الاحوال في ظروف كالتي يمر بها العراق بعد خوض تجربة عسكرية فريدة من نوعها بالتصدي الشجاع والباهر لتنظيم داعش الارهابي واستعادة جميع الاراضي التي احتلها منذ عام 2014، فالمرحلة اللاحقة بحاجة الى شجاعة تفوق بكثير شجاعة سوح المعارك لإنجاز هذا التحول الحقيقي والكبير.
الخطوة الاولى تنطلق من القاعدة الجماهيرية التي انطلقت منها هذه الاحزاب في تعبئتها العسكرية لاهداف تراها مقدسة وتحت شعار "المقاومة"، لتصل الى الاهداف السياسية المشروعة في ظل النظام الديمقراطي السائد في العراق، رغم هشاشته والثغرات التي يعاني منها.
فاذا تعد نفسها أمينة على القيم الدينية، وأنها تنظر الى الاسلام كنظام متكامل للحياة، عليها التخلّي عن لغة التطرف والتعصّب في الخطاب السياسي، ومحاولة "حرق المراحل" للوصول الى السلطة تحت شعارات دينية لأن "هذا ليس منطقاً واقعياً يعبر عن طبيعة الحياة، وسير الحركات الهادفة فيها لأمرين: ان الواجب المباشر لكل من يعمل من اجل الاسلام في مستوى الحكم، ان يوسع ويؤصل القاعدة الاسلامية في المستوى الشعبي تسمح للحكم الاسلامي ان يسودها، وتؤيده حتى يبقى طويلاً بعد تكونها، لان لو افترضنا ان الحكم الاسلامي استطاع ان يقفز على المناصب الحكومية العليا، بواسطة ثورة عسكرية –مثلاً- وكانت الشعب لا يؤمن بأفضلية الحكم الاسلامي، بل يعرفه بأبشع مظاهر التخلف والجمود، فان الحكم لا يستطيع أن يستمر ولو توسّل بالسلام لإرغام الشعب، فانه لا يكتب له البقاء. فالواجب على الاحزاب الاسلامية العمل الاسلامي في مجال العبادات، قبل العمل الاسلامي في مجال الحكم. والثاني: لو توسع الحزب المتطرف حتى وصل الى الحكم فماذا يكون موقفه من الحكم؟ هل يلتقط الرجال العدول الأكفاء من شتى انحاء البلاد، بقطع النظر عن انتمائهم الحزبي؟ او يعتزل هو عن الحكم حتى يحكم أولئك الرجال العدول؟! لابد من الاعتراف من أن الحزب سيتولى بنفسه الحكم، فحينئذ لابد من الاعتراف ايضاً بان الافراد الذين لم يلتزموا بالعبادات –مثلاً- يوم كانوا اعضاء عاديين في الحزب، لن يقيدوا انفسهم بالاحكام الاسلامية عندما يصلوا الى المناصب الحكومية، كما انهم لن يتمكنوا من تقييد المجتمع بتلك الاحكام".
إن وجود التنظيمات السياسية في العراق أمر مطلوب للغاية، فهي تمثل داينمو العملية الديمقراطية، وأبرز مصاديقها، وحتى تكون مساهمة في إنجاح هذه التجربة الفتية في العراق، رغم العقبات والتحديات، عليها ان تتسلح برؤية جديدة و إرادة شجاعة بتغليب المصالح الوطنية وتعميق الوعي الديني في صفوف افرادها، ثم في صفوف ابناء الشعب، لاسيما وأن العراقيين بلغوا مرحلة لا بأس بها من وعي الاحداث الاحداث السياسية والاقتصادية في العراق والعالم بفضل المتابعة المستمرة عبر مختلف وسائل الاعلام والاتصال، لاسيما شريحة الشباب المتعلم الطامح للرقي والتقدم العلمي، ثم التطور الاقتصادي، وهذا لن يتم إلا في أجواء آمنة ومستقرة توفرها هذه الاحزاب والتنظيمات الخالية من السلاح.
اضف تعليق