تعيش كربلاء ظروفاً استثنائية، ربما لم تشهده في تاريخها مطلقاً، يجدر بها أن تكون مصدر إشعاع فكري وثقافي؛ ليس للعراق وحسب، وإنما للعالم بأسره، من خلال فعاليات ذات طابع عالمي على غرار ما صنعه المرجع الشيرازي الراحل، قبل اكثر من ستين عاماً، وقد أشرنا اليها في مقالات سابقة...
في أي بقعة أثرية في العالم يممت وجهك، تجد الاهتمام الجادّ، في ترميم المَعْلم، وفي نشر خلفيته التاريخية، ومكانته الحضارية، كأن يكون قصراً، او قلعة دفاعية، او جسر، او مدرسة، أو أي معلم أثري آخر يعبر عن تاريخ شعب وأمة، بغض النظر عن دور هذا المَعْلم في زمانه، وما اذا كان لخدمة الناس، مثل الجسور والمدارس والجوامع او حتى الحمامات، او يكون بالعكس؛ قصوراً وسجوناً كانت تمثل مصدر رعب للناس، وسبب لشقائهم وعذابهم. وفي مرحلة لاحقة من هذا الاهتمام، يأتي دور الاستثمار، ليس فقط في الجانب السياحي، وإنما في الجانب المعنوي؛ كأن يكون مصدر إلهام، او درس للعبرة.
مدينة كربلاء في العراق، ليست مدينة أثرية، كما هو الحال في مدينة بابل (الحلة)، او مدينة الموصل، او الناصرية، التي تضم معالم أثرية لأقوام وحضارات، إنما أهميتها وخصوصيتها برزت من قدسيتها كونها تضم مرقد الإمام الحسين، وأخيه أبي الفضل العباس، وايضاً شهداء واقعة الطف، وايضاً من القضية العالمية والكبرى التي خلقت الواقعة، لذا فان العلماء والخبراء والادباء من شتى أنحاء العالم، عرفوا كربلاء من خلال هذه القضية، وليس من خلال المدينة بظاهرها الموجود، ولا حتى من خلال المعالم الجميلة التي تغطي المرقدين الشريفين، من قباب ومآذن وغيرها من التفاصيل القابلة للتغيير والتطوير مع مرور الزمن.
ماذا أعطينا لكربلاء؟
ليس المقصود الخدمات مثل؛ الشوارع المعبدة والمضيئة، والتشجير، والكهرباء والماء، والمباني والجسور ونظام المرور، مما يفترض ان يوجد في سائر المدن العراقية، أسوة بأي مدينة متحضرة في العالم. إنما المقصود في العطاء ما يبلور هوية المدينة لمن يسكن فيها أولاً؛ ثم لمن يأتيها زائراً من أي مكان بالعالم ثانياً.
بنظرة خاطفة خلال تجوال سريع وسط المدينة، وحتى بالقرب من الحرمين الشريفين، يتضح للرائي أن نسبة لا بأس بها من الموجودين على سطح المدينة يجهلون حقيقة هويتها واستحقاقها، و مردّ هذا الى اسباب عديدة، منها الانشغال كثيراً بالجانب المادي، متمثلاً بالتجارة والسياحة، ولو أن هذا من الايجابيات، حيث يوفر فرص عمل، ويزيد من حيوية المدينة، بل ويدفعها نحو التطور والنمو الاقتصادي، إنما المشكلة في أن لا يكون كل هذا سبباً في تغييب العلّة الاولى لوجود هذه المدينة، ولماذا تتصدر "السياحة الدينية" اكثر من أي مدينة في العراق، وربما في العالم؟
وللامانة التاريخية، فان هذه المدينة شهدت في تاريخها المعاصر –على الاقل- جهوداً جبارة لتكريس طابعها الولائي "الحسيني"، وهويتها الدينية والحضارية، على يد علماء دين وكتاب وأدباء ووجهاء طيلة القرن الماضي، وقد أينعت هذه الجهود عن فعاليات فنية وأدبية وجماهيرية رائعة في اواسط القرن الماضي، بمبادرة من المرجع الديني الكبير في زمانه؛ السيد ميرزا مهدي الشيرازي، ومن بعده أخذ الراية، نجله المرجع الديني السيد محمد الشيرازي، فأقاموا المهرجات الشعرية، والمعارض، والمكتبات، والمدارس، وطبعوا مئات الالاف من الكتب والمجلات، بل وجد المرجع الشيرازي (الابن) الفرصة في ستينات القرن الماضي لأن يجرّب لأول مرة فكرة الاذاعة من الروضة الحسينية، عندما وزع مكبرات الصوت حول الحرم باتجاه البيوت والاسواق والازقة لبث مختلف البرامج التربوية والارشادية، فضلاً عن الأذان والادعية.
واليوم؛ حيث تعيش كربلاء ظروفاً استثنائية، ربما لم تشهده في تاريخها مطلقاً، يجدر بها أن تكون مصدر إشعاع فكري وثقافي؛ ليس للعراق وحسب، وإنما للعالم بأسره، من خلال فعاليات ذات طابع عالمي على غرار ما صنعه المرجع الشيرازي الراحل، قبل اكثر من ستين عاماً، وقد أشرنا اليها في مقالات سابقة، من إقامة المهرجان الشعري العالمي بمناسبة ذكرى مولد الامام علي، عليه السلام، أو إقامة نصب تذكاري لمقبرة البقيع قبالة مرقد الامام العباس ودعوة السفير السعودي لمشاهدة النصب وإيصال الدعوة الى السلطات السعودية بإعادة بناء مراقد أئمة البقيع، بينما اليوم بالامكان إقامة فعاليات ذات رسالة واضحة ومحددة تبلور من جديد قيم ومبادئ النهضة الحسينية، وأبرزها؛ الحرية، والمساواة، والإصلاح، على صعيد الانسان الفرد، والمجتمع، والدولة ايضاً، وذلك من خلال مهرجان للرسم عن نبذ العنصرية، وكيف أن عبداً أسوداً تحول الى بطل مغوار ثبت اسمه في الخالدين الى جانب الامام الحسين، أو إقامة مسابقة للمرأة النموذجية التي تستوحي مثالها من المرأة العاشورائية، وتحديداً من العقيلة زينب، في العفّة، والمؤازرة، والتعبئة، والصبر، وتحدي الطغاة، وكم لدينا من النساء المؤمنات من ايران وافغانستان ولبنان وباكستان والبحرين والقطيف، فضلاً عن الكربلائيات والعراقيات، من هنّ على هذا الطريق، قدمن من التضحيات الجسام، وأدّين ادواراً عظيمة، ولكن؛ للأسف يقبعن بين الجدران الاربعة!
الخطوة الأولى
هي بالحقيقة خطوة متقدمة الى الامام، إنما تحتاج لنظرة متأنية الى الجذور لاستلهام الدروس والعبر بغية صياغة المنهج المتكامل لمختلف الفعاليات والبرامج على سطح المدينة، وهذا يكون بقراءة شاملة ثم البحث عن المصاديق العملية على ارض الواقع، مثال ذلك؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ صحيح أن الجميع يعرفها كأحد فروع الدين، واحياناً يقيدها البعض على ذمة رجال الدين او الخطباء دون سائر الناس، بيد إن تكريس هذا المبدأ ذو البعد الانساني، من شأنه ان يعزز العلاقة بين الساكنين في كربلاء وايضاً الزائرين، وبين شخص الامام الحسين، كونه، عليه السلام، ضمّن هذه الفريضة في نهضته ضد الظلم والانحراف الأموي، وحصل ما حصل من أجل إحياء هذه الفريضة، ومن اجل ألا تتحول الى كلمات تكتب في الكتب من بعده.
والمعروف ليس بالضرورة ان يتجسد دائماً في أن يكون الرجل مصلياً، وأن تكون المرأة محجبة، إنما ينسحب على جوانب مختلفة في الحياة الاجتماعية، ربما يكون انتظار سائق سيارة لبضع ثواني لتعبر امامه سيارة اخرى، او يعبر المارة امامه، يكون احد مصاديق المعروف، وغيرها من الحالات التي نعيشها يومياً.
وبكلمة؛ كل شيء في كربلاء يجب ان يعبّر عن قيم ومبادئ النهضة الحسينية، وفي هذا السياق أجدني ملزماً بالاشارة الى مبادرات الماضين من أهلنا في هذه المدينة مما جعلها تتميز عن أية مدينة اخرى في العراق، بل والعالم بأسره، وهو وجود الماء العذب في كل مكان، وحتى في الصيف اللاهب حيث يحرص الخيرون على تقديمه بارداً للمارة، وهذه السنّة بدأت من حرم الامام الحسين، حيث كان "السقّاء" يوزع الماء على الزائرين، ثم توسعت الفكرة لتشمل الاسواق والمحال التجارية المقريبة من الحرم، ومن ثمّ انتشرت لتشمل حتى البيوت البعيدة عن المرقد الشريف، وهي تفتح نافذة صغيرة من جدرانها لصنبور الماء البارد، ويحرص القائمون على هذه المبادرات بأن يضمنوا الماء بعبارة يقرأها الشارب: "اشرب الماء واذكر عطش الحسين".
العطش إحدى مفردات النهضة الحسينية، وثمة مفردات اخرى ذات مدخلية في الحياة الاجتماعية والسياسية، أبرزها الإصلاح، فهل شهدت المدينة وتحت شعار النهضة الحسينية، ندوات ومؤتمرات تناقش الإصلاح الاسياسي والاجتماعي في العراق، وتخرج بافكار وبرامج عملية وواقعية تتحدى العقبات مهما كانت؟
ان الطابع العام عن مدينة كربلاء؛ الأسى والحزن، وفي جانب القضية والفكرة، فانها خاصة بالامام الحسين واصحابه، عام 61هـ أي قبل حوالي اربعة عشر قرناً من الزمن، وهذا ما لايجب ان يكون في من يتولّى مسؤولية ادارة المدينة، من إصغر موظف الى أكبر مسؤول تنفيذي، او قضائي، وايضاً فيمن يسكن هذه المدينة بالدرجة الاولى، ولغيرهم ايضاً ممن يعد نفسه من محبي وموالي الامام الحسين، وكما في أدبياتنا، بأن الخلود لمن يربط اسمه بالنهضة الحسينية، من علماء وأدباء ومصلحون وثوار، مثل؛ الميرزا الشيرازي، صاحب ثورة العشرين، والشاعر محمد مهدي الجواهري، وغاندي، وغيرهم كثير، فانه بالقدر الذي نجسد فيه تلك المبادئ التي علا بها هؤلاء وعرفناهم من خلالها، كلما كسبنا حضارياً وانسانياً، وتميزنا عن الآخرين، وجعلناه منهاجاً لحياة أفضل.
اضف تعليق