قد لا يتحمل العالم تغييرا في الحدود الجغرافية للدول، لكن من الطبيعي جدا، ان يتقبل دولا ممزقة عمليا، بعد ان تتحول الى مجموعة كانتونات، باسم الفدراليات وغيرها، وهو ما يجري العمل عليه في العراق وسوريا، وستصل تداعياته الى ايران وتركيا السعودية وحتى مصر...
لعل حكاية المثل الشهير "أكلت يوم أكل الثور الابيض" ما زالت تجد لها اكثر من تأكيد في الشرق الاوسط الملتهب. ومن يتابع مسلسل الاحداث، سيجد ان اغلب دول المنطقة استدرجت الى فخ كبير صنعته قوى كبرى متنفذة، وتمتلك ادوات تأثير مباشر وغير مباشر. فبعد احتلال العراق، لم تنجح هذه الدول في قراءة المستقبل، وانهمك اغلبها في كيفية املاء الفراغ بما يتناسب مع توجهات كل دولة، وصار تصارعها على هذا مدعاة ضعفها جميعا قبل ان يكتشف قادتها ان تغييرا في خارطة المنطقة لصالح اي دولة فيها، غير ممكن، كونها البقعة الاغنى في العالم، والاهم في حسابات الكبار.
لم يعقد مؤتمر اقليمي للمصارحة ولمناقشة تداعيات ما بعد احتلال العراق، ولم يترشح أي تصور مشترك لمستقبل الشرق الاوسط، وكيفية التعامل الواقعي مع مشاكله المزمنة، حتى بعد ان تمت المجاهرة من قبل ادارة بوش الابن بان شرق اوسط جديدا، يجري تشكيله. واكتفى البعض بما حققه من مكاسب جانبية ونفوذ سياسي محدود في هذه المنطقة او تلك، وتكرس هذا الواقع الخادع بعد "الربيع العربي" الذي كان الهدف منه تعميم الفوضى وتقويض نموذج الدولة التقليدية الذي بني مطلع القرن الماضي، باسم دمقرطة المنطقة وشعارات الحرية وحقوق الانسان.
ايران وتركيا من جهة ومصر والسعودية من جهة اخرى، هي الدول الاقوى التي كان عليها ان تتدارك الامور برؤية مستقبلية، تنتج عن مؤتمر اقليمي يجمعها بدول المنطقة الاخرى. لكن هذا لم يحصل، بل حصل نقيضه تماما. هو الصراع البيني على مغانم الدول التي تداعت بالاحتلال او تحت ضربات الارهاب القادم مع ربيع الخراب.
اليوم تقف دول المنطقة في ميدان مختلف تماما، ميدان مضطرب، ومناخ ملبد بالغيوم السوداء، ووجدت نفسها تحارب، متفرقة، من اجل البقاء، بعد ان بلغ مشروع الانقضاض على المنطقة مراحل متقدمة. ايران اليوم محاصرة ومختنقة اقتصاديا، وسيستمر هذا الحصار لأجل غير معلوم، واية ادارة اميركية جديدة لا تستطيع تحدي اللوبي الصهيوني وتفك الحصار، من دون ان يتحقق لاسرائيل ما تريده، وهو في الاقل ابعاد وسائل التأثير الايراني في المنطقة عنها، او ما يعبّر عنه بتقليم اضافر ايران. ومعروف ان الحصار الاقتصادي، اشد فتكا من أي حرب اخرى، لأنه يبعث اليأس في النفوس، ويسهم في اضعاف الروح الوطنية، لدى أي شعب بعد ان يحاصره الاحساس بلا جدوى استمرار حرب مدمرة كهذه، وتجربة حصار العراق النموذج الابرز.
تركيا التي اعتقدت هي الاخرى، ان الطريق باتت سالكة امامها لتتمدد في المنطقة من خلال فروع تنظيم الاخوان المسلمين فيها، بعد ان عملت على ان تكون مركزها العقائدي، وعملت على ذلك في سوريا وقبلها في مصر وليبيا وغيرها، ايقنت الان، انها كانت تطارد السراب، وان القادم يحمل اليها الكثير من المخاطر، بعد ان تأكد لديها ان حصار ايران يمثل بداية لفرض واقع سياسي جديد، يبدأ باخراج الايرانيين من سوريا، مثلما سيكون بداية لتأسيس كيان كردي، شمالي سوريا او على حدودها الجنوبية ومن خلال "قسد" التي اجرت استفتاء تقرير مصير بالتزامن مع استفتاء كردستان العراق في ايلول من العام 2017، ليكون ورقة بايدي صناع القرار الدولي مستقبلا. ما يعني ان ايران هي الهدف القوي الذي تنشغل به اميركا اليوم، وما ان تنتهي منه او تجعل ايران منكفئة على نفسها وضعيفة، يبدا الاشتغال على تركيا الاخوانية، التي استشعرت متأخرة هذا الخطر الكبير، فوقفت ضد الحصار على ايران، واستدارت نحو الروس لتتحصن بهم اقتصاديا وعسكريا، لإدراكها انه في الطريق اليها، أي انها ستحاصر مستقبلا، بالطريقة نفسها وبحجج لا يصعب ايجادها، ما يفسح الطريق امام اقامة كيان كردي، يتمتع بصلاحيات كبيرة، تؤمن لاميركا اقامة قواعد عسكرية مهمة، تغنيها عن قاعدة انجرليك التركية التي باتت من متروكات حلف الناتو العجوز، وتجعلها اكثر قربا وحضورا من مصالحها في الشرق الاوسط، وتضمن امنا حقيقيا ومستداما لاسرائيل، تمهيدا لما يعرف اليوم بصفقة القرن، بعد ان تصبح الطريق اليها معبدة تماما.
قد لا يتحمل العالم تغييرا في الحدود الجغرافية للدول، لكن من الطبيعي جدا، ان يتقبل دولا ممزقة عمليا، بعد ان تتحول الى مجموعة كانتونات، باسم الفدراليات وغيرها، وهو ما يجري العمل عليه في العراق وسوريا، وستصل تداعياته الى ايران وتركيا السعودية وحتى مصر، ان بقيت قراءة هذه الدول محصورة برؤاها العقائدية ومصالحها الذاتية الضيقة، التي لم تنضج رؤية استراتيجية مشتركة، حقيقية وواقعية، تحميها جميعا من العاصفة التي بدأت باحتلال العراق ومازالت مستمرة.
بعيدا عن مشاعر محبي ايران وكارهيها، نقول؛ ان انتصار اميركا في مواجهتها الحالية مع ايران، يعني ان المشروع مضى باتجاه هدفه النهائي، بعد ان قطع الاشواط الاصعب خلال السنين الماضية وبسهولة نادرة، وبمباركة ابناء المنطقة وغفلتهم جميعهم!.
ويبقى السؤال.. من يصرخ اخيرا، ويقول؛ لقد أكلت يوم أكل العراق الابيض؟
اضف تعليق