وهذا لا يعني ان نجلس وننتظر الفرصة المتاحة لتوقف سيناريو الفوضى وعدم الاستقرار، فهذا ربما يستغرق سنوات طوال بوجود المنفعة السياسية، فلابد للمؤسسات الثقافية تحديداً من الدخول بقوة على الخط السياسي الحاكم والتأكيد بأن العراق يمتلك عوامل قوة فائقة غير ما في أيديهم من دولارات النفط...
فيما كان في السيارة الى جانب محافظ كربلاء المقدسة، تساءل الوزير القادم من بغداد عن المناسبة التي دعت الى مظاهر الزينة التي تملأ الشوارع والساحات بالأشرطة الملونة والمصابيح، فجاء الجواب بأن أهالي كربلاء يقيمون كل عام احتفالاً بهيجاً بمناسبة ذكرى مولد الامام علي، عليه السلام، ويتضمن فعاليات مختلفة من احتفالات وإقامة نصب تذكارية وغيرها، ثم الوزير الزائر بغير قليل من الغرابة عمن يقف خلف هذه الاعمال الكبيرة، فقال له: هنا يوجد عالم دين يحبه الناس ويتبعونه، يُسمى؛ السيد محمد الشيرازي، يدعو الناس لإحياء مناسبات دينية مختلفة ويتفاعل معه الناس، فكان الاستفزاز الشديد هو رد فعل الوزير، وأمر بإزالة جميع مظاهر الزينة، محذراً المحافظ من أجواء كهذه، لأن "اذا أطاعوه في مظاهر الزينة والمناسبات الدينية، فانهم سيطيعونه اذا ما اراد الانقلاب علينا وتشكيل نظام حكم جديد"!
في فترة قريبة من زمن المحاورة هذه، كان المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- يحرص على إقامة الاحتفالات البهيجة بمناسبة ذكرى مولد أمير المؤمنين، في مدينة كربلاء، منذ عام 1960م ضمن الخطوات المتبعة لمواجهة التيارات الفكرية الوافدة من الخارج، ليس هذا فقط، وإنما استثمر الاجواء المساعدة، لأن يضمّن الاحتفالات فعالية من نوع جديد، لم تشهده كربلاء، وربما العراق بأسره، بأن شيّد نموذجاً لمراقد الأئمة المعصومين في البقيع قبل هدمها من قبل السلطات السعودية عام 1925م، ونصب البناء المصنوع من الخشب قبالة حرم أبي الفضل العباس، عليه السلام، وسط الشارع، وكتب عليه دعوة من أهالي كربلاء والشعب العراقي للحكومة السعودية بإعادة بناء هذه المراقد، وحسب من عاصروا تلك الايام، فقد تمت دعوة السفير السعودي في بغداد لزيارة كربلاء والمشاركة في الاحتفالات، وايضاً زيارة هذا العمل الفني الجميل، وهو ما حصل فعلاً، حيث جاء الى كربلاء وشاهد النموذج المجسّم لمراقد البقيع، ووعد بنقل رسالة الشعب العراقي الى حكومته في الرياض.
قوة الجماهير من قوة الدولة
عندما لا تكون دولة مبتلية بمشكلة سياسية ذاتية، كأن تكون متمخضة من تقسيمات استعمارية، وتعجز عن تجاوز هذه العقدة، او لا تعيش مشكلة اقتصادية حقيقية، كأن يكون في عدم التوازن بين الموارد المالية وبين تعداد السكان. فان الجماهير في دولة كهذه، أقدر على المطالبة بحقوقها، بل والتفكير في التنمية والتطوير، لانها تتكلم بقوة الجذور التاريخية والحضارية لديها كدولة ذات سيادة ومؤسسات اقتصادية وثقافية، كما هو الحال مثلاً؛ في الدولة الايرانية، او الدولة التركية، او الدولة المصرية، ونلاحظ أن من يفكر بالتسلّق الى قمة السلطة يفكر ألف مرة قبل أن يقرر تنفيذ عملية انقلاب عسكري او أي محاولة اخرى لفرض نظام حكم معين على هذه الدولة او تلك.
وهنالك دول بذلت جهوداً في مراحل متعددة من تاريخ وجودها السياسي لأن تنهض وتسير بخطى ثابتة، وتتجاوز عقدة التكوين، مستفيدة من مواصفات عالية تستوفي شروط التنمية والتطور، ومثالنا؛ العراق، الذي شهد النهوض والكبوة مرات عديدة منذ تأسيسه كدولة مستقلة، وحتى اليوم، وقد اشار الخبراء الغربيون الى أنه في السنوات التي سبقت الانقلاب العسكري عام 1958، كان "بامكان العراق أن يكون ذا شأن في المنطقة والعالم بفضل موارده البشرية، وثرواته الهائلة، وموقعه الجغرافي"، بيد أن الملاحظ بشكل لا يماري فيه أحد، أن الفيروس الوحيد الذي يكمن دائماً في هذا الطريق؛ هو الديكتاتورية والاستبداد السياسي، و أول خطوة له للسيطرة على الاوضاع؛ خلق الفوضى الشاملة، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، وجعل الناس في حالة اضطراب من كل شيء، مما يجعل التاجر الثري، والعالم العبقري، يحجمون حتى عن الخروج من بيوتهم، فضلاً عن التكلم عما في صدورهم من طموحات للإسهام –كما يؤمنون ويرغبون- في تطوير البلد وإسعاد شعبه، ويكون الخيار المفضّل؛ الهجرة الى خارج البلد.
ومنذ بدء مسلسل الانقلابات العسكرية في العراق، تم تطيبق سياسة الفوضى "غير الخلاقة" آنذاك، والتي توفر القوة والمنعة للنظام السياسي الحاكم فقط، وفي فترات زمنية معينة كان العراق يشهد ابتعاد أيدي أهل السلطة عن الجماهير وكيان الدولة بشكل عام، وينشغلوا بالتنافس المحموم على قمة السلطة، كان الناس يتنفسون الصعداء، ويعبرون عن افكارهم، وتطلعاتهم، وهويتهم، وهو ما استشعره مبكراً سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي، عندما عبأ كل القوى، وأستثمر كل القدرات الموجودة في المجتمع خلال سني الستينات للقيام بما يمكن لنشر الوعي والثقافة في المجالات كافة، ومواجهة الافكار الدخيلة والمستوردة، ثم التفكير بالتنمية والتطوير في العراق، وهي أعمال في ميادين مختلفة لكل منها مجالها وعالمها الخاص، مع ذلك عمل المرجع الشيرازي بما يشبه المستحيل للاستفادة القصوى من الفرص المتاحة، وكان من تلك الاعمال؛ إقامة الاحتفال البهيج في ذكرى مولد الامام علي، عليه السلام، وهي فعالية كانت بالنسبة له تمثل رسالة بليغة الى أهل السلطة في بغداد، وايضاً الى العالم بأن هنالك بلد وشعب يعتزّ بتاريخه وهويته، وغير مستعد للتخلّي عنه مهما حصل.
فعندما ينتهي الزعيم أو "القائد الضرورة"، او الحزب الحاكم من عملية تصفية الخصوم والمنافسين في الطريق الى قمة قمة السلطة، يتوجه فوراً الى الداخل وإطلاق البرامج في كل الاتجاهات للسيطرة على الاوضاع وعدم السماح لأحد بالعمل خارج المنظومة المحددة من قبل النظام الحاكم، ويستفيد لتحقيق اهدافه من كل القدرات المتاحة في البلد لخدمة اهدافه المرسومة، وقد وصلت هذه الحالة المرضية في العراق الى ذروتها منذ الايام الاولى لتولّي صدام رئاسة الجمهورية وتحويل العراق بأسره الى دوامة للعنف الداخلي والاستنزاف الخارجي.
ثم لنلاحظ ما حصل بعد الاطاحة بهذا النظام، فما عدا حالات الاستحواذ على الممتلكات الحكومية من قبل بعض الناس وفي بغداد تحديداً، فان العراق (البلد والدولة) لم ينزلق نحو الفوضى والاقتتال كما توقع البعض ممن كانوا في الخارج، إنما سارع لتنظيم أموره بنفسه، ومن عوامل التنظيم هذه؛ العشائر التي أخذت مكان الشرطة والمحاكم في فضّ النزاعات والمشاكل بين الناس، ثم جاءت مناسبة زيارة الامام الحسين، يوم الاربعين، وذلك بعد ايام من غياب سلطة صدام، وكيف أن العالم وقف مشدوهاً أمام تقاطر عشرات الآلاف من البشر نحو كربلاء الصغيرة والمعدومة من الامكانات الخدمية، دون أن تحدث أية حالة نزاع او مشكلة معينة، وانتهت الزيارة وعاد الجميع الى بيوتهم سالمين غانمين.
الفوضى الخلاقة هذه المرة لصالح الخارج!
ربما يسأل القارئ عن الوضع الراهن بعد طيّ حقبة الديكتاتوريات العسكرية، فما مشكلة المؤسسات الثقافية والعلمية في عدم الإسهام بالعملية التنموية والتعويض عما لحق العراق من حرمان وتخلف؟
في العقود الماضية كانت الانظمة السياسية تخلق الفوضى واللااستقرار بنفسها، من خلال مؤسساتها الحزبية، أما اليوم فان هذه الفوضى لا يجرؤ أحد من العراقيين على تبنيها او خلقها، إنما هي من منتجة خارجياً.
يكفي أن نأخذ مثالاً من الدستور الذي ينصّ على عدم جواز سن قوانين تخالف الشريعة الاسلامية، ثم يضيف تباعاً؛ عدم جواز سن قوانين تخالف الديمقراطية! فأية قوانين هذه التي ستتمخض من مجلس النواب المنتخب من الشعب؟!
نعم؛ الحرية متاحة في العراق، ربما أكثر من أي بلد عربي واسلامي، بيد أن هذه الحرية ليست ذات هدف واضح، فهي تخدم من؟ فضلاً عن التفسيرات الغامضة وغير الدقيقة لها.
هذا فضلاً عن سائر مظاهر الفوضى في معظم مرافق الدولة العراقية، والتي بلغت الذروة في السنوات الماضية، ودفع العراقيين الثمن غالياً في أرواح ابنائه بسبب فوضى الأمن وتحت مسمّى "الإرهاب"، وما نزال نشهد مظاهرها حتى اليوم، فبدلاً من أن يحضر سفير بلد ما الى فعالية ثقافية تمثل هوية شريحة واسعة من الشعب العراقي، كما حصل قبل حوالي خمسين عاماً في كربلاء، نرى أن سفير هذا البلد او ذاك في العراق، او حتى شخصيات من الخارج، يلتقي مع شخصيات سياسية تهم بلده، حتى وإن كان حجم ثقلها السياسي والاجتماعي بمستوى محافظة او كتلة نيابية في البرلمان، كما يحصل أن يقوم هذا الوزير او ذاك النائب، او حتى رئيس البرلمان بزيارة الى دولة معينة لاهداف تعني بطائفته او حزبه، ولا دخل لهذه الزيارة التي يغطي تكاليفها من أموال العراقيين، بما يعيشه البلد ولا بمستقبله.
وعما سبتته الفوضى من سوء الخدمات، وتشوه العمل الاداري والحكومي بسبب الفساد، وفقدان القوانين الهامة لحياة المواطن، وتبعية القرار السياسي وغيرها، فالحديث عنه بات مملاً للقارئ الكريم.
وهذا لا يعني ان نجلس وننتظر الفرصة المتاحة لتوقف سيناريو الفوضى واللااستقرار، فهذا ربما يستغرق سنوات طوال بوجود المنفعة السياسية، فلابد للمؤسسات الثقافية تحديداً من الدخول بقوة على الخط السياسي الحاكم والتأكيد بأن العراق يمتلك عوامل قوة فائقة غير ما في أيديهم من دولارات النفط، فثمة الانسان العراقي المبدع والطامح دائماً للتغيير والبحث عن الجديد، كما هنالك العمق الحضاري والتجارب التاريخية الغنية، فضلاً عن الارض الخصبة والموقع الجغرافي وعناصر اخرى لصناعة دولة قوية يكون فيها المواطن قوياً ايضاً.
اضف تعليق