المنطقة الخضراء مكان يقع وسط العاصمة بغداد بمساحة 10 كلم مربع يضم مقر الحكومة والبرلمان العراقيين، والسفارتين الأميركية والبريطانية ووكالات حكومية وأجنبية. ظهر هذا الاسم عند قيام الحكومة العراقية الانتقالية التي شكلها بول بريمر بعد احتلال العراق عام 2003. وكانت هذه المنطقة قبل الغزو مقر الحكومة العراقية....
المنطقة الخضراء مكان يقع وسط العاصمة بغداد بمساحة 10 كلم مربع يضم مقر الحكومة والبرلمان العراقيين، والسفارتين الأميركية والبريطانية ووكالات حكومية وأجنبية. ظهر هذا الاسم عند قيام الحكومة العراقية الانتقالية التي شكلها بول بريمر بعد احتلال العراق عام 2003. وكانت هذه المنطقة قبل الغزو مقر الحكومة العراقية السابقة وتضم القصر الجمهوري وقصر السلام وقصورا أخرى للرئيس العراقي السابق صدام حسين وولديه، وقبله كانت حيا سكنيا يدعى شعبيا “كرادة مريم” ورسميا “حي التشريع”.
كانت أميركا هي التي أطلقت هذه التسمية “المنطقة الخضراء” وكان لها قصدان؛ الأول لتبشّر العراقيين بما يوحي به اللون الأخضر من دلالات. فكما الشجرة لا تكون خضراء إلا بتوافر الماء والهواء والتربة الجيدة، فإن أميركا أرادت أن توحي للعراقيين بأنهم مقبلون على عراق أخضر زاهر آمن، وليكون العراقيون مدينين لها بهذه الفضائل.
والثاني جعل العراقي يعقد، في وعيه ولاوعيه، مقارنة بين منطقة كانت حمراء، سكنها مارد سفك دماء العراقيين في حروب حمقاء، وحوّل حياتهم إلى جحيم وأيامهم إلى مآتم عزاء، وبؤس أكلوا فيه خبز النخالة ثلاثة عشر عاما عجفاء، وبين منطقة أصبحت خضراء منحت العراقي الخلاص من الرعب والخوف وكل ما يحمله اللون الأحمر من أخطار، وتعده بتحقيق وطن جميل وراحة نفسية بعد ثلاثين سنة من الفواجع.
ما حصل أن المنطقة الخضراء سرقت أحلامهم، وجلبت لهم الفواجع، وأوصلتهم إلى أقسى حالات الجزع والأسى؛ الترحم على الأيام التي كانت فيها هذه المنطقة حمراء، وحصول ما هو أوجع من الكارثة، لأن من وعدهم بتحقيق الحلم وخذلهم كانوا مناضلين بينهم من عاش هموم الشعب وأوجاعه.
من حالة الخذلان هذه نشأت سيكولوجيا العزلة، عزلة المنطقة الخضراء ليست فقط مكانيا بأن أحاطت نفسها بالحراسة المشددة، بل إنها عزلت نفسها نفسيا عن الناس، فصار عندنا عالمان متناقضان؛ عالم صغير، هو المنطقة الخضراء، وعالم كبير هو العراق. من سيكولوجيا العزلة نشأت حالة أخطر هي سيكولوجيا القطيعة النفسية، بدأت من يوم انفرد أهل المنطقة الخضراء بتحويل واقعهم إلى حياة خرافية، وترك من أوصلهم إليها يعيشون حالة البؤس والخوف والفزع. وتطورت حالة القطيعة إلى حالة الخصومة في اليوم الذي خرج فيه المخذولون بتظاهرات كانت تحمل في البدء معاني العتب والتنبيه، ولما تأكد لهم أنهم ما استجابوا وما خجلوا ولا حتى قالوا لهم “حقكم علينا”، عندها غصت ساحة التحرير في شباط 2011 بالجماهير تهتف “نواب الشعب كلهم حرامية”، فردت المنطقة الخضراء بأن أوفدت أحد “مناضليها” ليصعد على سطح العمارة المطلّة على الساحة ويعطي الأوامر بضربهم.
بلاء المنطقة الخضراء تجاوز هذا الحال بأن أساءت للدين وأفسدت القيم، في حال أفضى إلى إضعاف الضمير الأخلاقي كي يغلق باب الشعور بالذنب ليفعل صاحبه ما يشاء وسط آخرين يهوّنون عليه الأمر برؤيته لهم يتفننون في فعل الشيء نفسه، وآخرين يخرّجونها دينيا بأن “الضرورات تبيح المحظورات”. وبضعف الوازع الديني وتهرؤ الضمير الأخلاقي عند السياسي، يكون قد غيّر سكّته إلى حيث الرفاهية الشخصية التي تغريه وتنسيه بؤس الناس وحاجتهم إليه، إلى درجة صار فيها العراقيون يصفون أهل المنطقة الخضراء بأنهم “مسحوا آخر قطرة حياء من جباههم” لانشغالهم بمصالحهم.
كان يعاب على صدام حسين أنه بنى قصورا، لكن قصوره كلّها بناها في العراق وعادت لأهله، فيما كبار المنطقة الخضراء “افتهموها” فبنوا فللا في لندن وباريس وبيروت وعمان ودبي وشرم الشيخ، مع أنه في كل يوم تحل بالعراقيين فواجع هم سببها.
هذا التوصيف لا يشمل كلّ ساكني المنطقة الخضراء، ولا يصح أن يطلق بتعميم على كلّ السياسيين فيها، فبينهم من هو في محنة مع شركائه، ومن هو غيور على وطنه، وثالث نفترض أنه يتمتع بحصانة يحمي بها ضميره الأخلاقي من ملوثات الفساد والمال والسلطة، ولكنهم قلّة غير مؤثرة في تغيير حال صارت فيه المنطقة الخضراء مصدر بلاء ومنتج أزمات أوصلت الناس إلى التمني لو كانت في العالم آلة حفر عملاقة تقتلع المنطقة الخضراء وترميها في خليج برمودا.. قريبا من أميركا.
اضف تعليق