ليس التزامن في التوقيت، هو القاسم المشترك الأوحد بين الثورتين الجزائرية والسودانية... فالبلدان العربيان اللذان قُدّر لها أن يستأنفا مسيرة \"الربيع العربي\" وأن يعيدا الاعتبار لحراكات الشوارع والميادين المليونية، سيتعين عليها، أن يشهدا \"السيناريو\" ذاته تقريباً، مع فوارق طفيفة تمليها \"السياقات المحلية\" للحدثين الذين استقطبا...
ليس التزامن في التوقيت، هو القاسم المشترك الأوحد بين الثورتين الجزائرية والسودانية... فالبلدان العربيان اللذان قُدّر لها أن يستأنفا مسيرة "الربيع العربي" وأن يعيدا الاعتبار لحراكات الشوارع والميادين المليونية، سيتعين عليها، أن يشهدا "السيناريو" ذاته تقريباً، مع فوارق طفيفة تمليها "السياقات المحلية" للحدثين الذين استقطبا اهتمام الرأي العام والأوساط السياسية والإعلامية في المنطقة والعالم.
في الجزائر، وبعد أن أيقنت المؤسسة العسكرية أن فرص تجديد الولاية للرئيس الجزائري المتهالك صحياً، عبد العزيز بوتفليقة، تبدو مستحيلة، سعى جنرالاتها إلى تجريب محاولة "تمديد" ولايته الرابعة لسنة أخرى على الأقل، بحجة "تدبير الانتقال" و"تفادي الفراغ"، ودائماً لحفظ الأمن والاستقرار... لكن وبعد أن أيقن الجنرالات أن أحداً "لم يشتر" بضاعتهم، وأن "واجهتهم المدنية المتهالكة" لم تعد تجدي نفعاً، نظموا ما يشبه الانقلاب في القصر وعليه، وأرغموا بوتفليقة، ومن أسموهم بـ"العصابة الفاسدة" على تبكير التنحي ببضعة أسابيع، وإعلان "الشغور" الرئاسي، وتنصيب رئيس انتقالي مؤقت، من نفس البطانة الحاكمة والمسؤولة عن الخراب المقيم في البلاد منذ عقدين من الزمان على أقل تقدير.
ستستفيد المؤسسة العسكرية الجزائرية، من توق الجماهير الجزائرية التي خرجت بالملايين إلى شوارع العاصمة ومختلف المدن الجزائرية مطالبة بتغيير جذري للنظام، والشروع في مرحلة انتقال جذرية نحو الحرية والديمقراطية، أقول ستستفيد المؤسسة من رهان الشعب على "حيادها"، فتنتزع زمام المبادرة، وتخرج بخطاب لفظي حاد وعنيف ضد عصابات الفساد والافساد، وتشرع في حملة اعتقالات وتوقيفات ومنع من السفر، تطال حفنة من الفاسدين، وتتعهد بالدفاع عن الناس وحفظ حيواتهم وأرواحهم، وتلبية مطالبهم، قبل أن يتضح للشعب الجزائري أن جُل ما يفعله الجنرالات، ليس سوى نوع من "التدوير" و"إعادة الإنتاج" للطبقة الحاكمة ذاتها، ومن داخلها، وأن نهاية مطاف حراكها "الثوري" هو استبدال "جلد" النظام القديم المتهالك والمتشقق، بجلد جديد، أو ترجيح كفّة أحد أجنحة السلطة على حساب أجنحة أخرى، لا أكثر ولا أقل.
في السودان، تكرر هذا السيناريو بحذافيره تقريباً، وأتيح لملايين السودانيين الذين كسروا حواجز الرتابة والخوف ونزعوا عن أنفسهم ثياب الكسل واللامبالاة، أن يشاهدوا فصول هذه المسرحية السوداء... عمر حسن البشير، كان ماضياً في مشروع تعديل الدستور للترشح لولاية جديدة في 2020، لكأن ثلاثون عاماً في السلطة لا تكفي لإشباع نهمه للحكم... وظل يناور ويراوغ كدأبه دوماً... تارة يدعو لحوار وطني وأخرى يقترح تغييراً حكومياً... أعلن الطوارئ وحظر التجوال، وزج بمئات المعارضين والمعارضات في السجون... كل ذلك لم يقنع السودانيين ولم يردعهم، تصاعدت الاحتجاجات متسلحة بطاقة جديدة من النجاحات الجزائرية... هنا، وهنا بالذات، تحركت المؤسسة العسكرية السودانية، وسلكت طريق نظيرتها الجزائرية بكل تفاصيله تقريباً.
خرج الرجل الثاني لينقلب على الرجل الأول، معلنا اقتلاع النظام واعتقال رأسه، لتتوسع حملة الاعتقال لتطال أجنحة في السلطة، سبق وأن أطيح بها من قبل، مثل نائب الرئيس السابق ووزير دفاع السابق وعدد من قيادات الحزب الحاكم... ثم إعلان الطوارئ وفرض حظر التجوال، واقتراح مرحلة انتقال تحت "حكم العسكر" ولمدة عامين كاملين.
بخلاف الجنرال أحمد قايد صالح المستمسك بالدستور كإطار ومرجعية لتنظيم الانتقال من النظام إلى النظام ذاته وإن بأسماء جديدة، لم يجد الجنرال عوض ابن عوف، في دستور البشير، ما يساعده على امتصاص غضب الشارع، فرض حكماً عسكرياً مباشراً ومن دون أقنعة، عطل الدستور وحل البرلمان ونصّب الجنرالات حكاماً للولايات... انقلاب كامل الأوصاف، يذكر بمسلسل الانقلابات العسكرية التي طبعت تاريخ السودان الحديث وميزت مرحلة ما بعد الاستقلال.
في الجزائر كما في السودان، الجنرالات يراهنون على مطلب الشعب بتحييد المؤسسة، فيعرضون أنفسهم بديلاً لرموز النظام المتهالكة، على نحو فج ومباشر كما في السودان، أو بصورة تتخفى خلف دستور النظام السابق ومؤسساته كما في الجزائر... اختلفت التفاصيل، لكن السيناريو ذاته، بأهدافه ومآلاته.
في الجزائر، كما في السودان، تخرج الملايين للشوارع على نحو عفوي، وتغيب القيادات الشعبية المنظمة، وتتوزع المعارضات على مراكز متنافسة ومتصارعة، وتتكثف مساعي العواصم الإقليمية والدولية المتنافسة والمتصارعة لدعم هذا الفريق أو ذاك...فتظهر المؤسسة العسكرية بوصفها القوة الإنقاذية الوحيدة الجاهزة لانتزاع زمام المبادرة، فيثير تدخلها ارتياحاً نسبياً مؤقتاً لجهة تبديد المخاوف من الانزلاق للفوضى وانعدام الاستقرار، بيد أنه ارتياح "مفخخ" بالخشية المشروعة، من عودة الدكتاتورية والاستبداد، والانتقال من حكم العسكر إلى حكم العسكر.
حتى الآن، لا يبدو أن الأوضاع في الجزائر والسودان، قد استتبت للجنرالات، فالجماهير التي تعلمت من دورس تجاربها التاريخية المتراكمة، ودروس ثورات الربيع العربي الحيّة الطازجة، أظهرت وعياً متقداً لألاعيب المؤسسة العسكرية ومكر الجنرالات وخداعهم... خريطتا طرق الانتقال التي تقدم بها الجنرالات، رُفضت في كلا البلدين، وعلى نحو فوري ومن دون تردد أو انتظار، والجماهير ما زالت في الشوارع والميادين، تعلن رفضها إعادة "تدوير" النخب القديمة" وإعادة انتاج النظم القديم بحلل جديدة، مع أنها تدرك أن معارك الإصلاح والتغيير تبدو اليوم أشد صعوبة، وربما أكثر كلفة، إذ أن المواجهة تدور الان بين الجموع الشعبية الغاضبة والمؤسسة العسكرية الحاكمة... لم يعد شعار "تحييد" الجيش صالحاً، فالجيش هو من يحكم، مباشرة (السودان) أو من خلف أقنعة (الجزائر).
لكنها معركة غير يائسة على صعوبتها كذلك، فالجماهير التي غادرت مربع الخوف وتعرفت بنفسها على مكامن قوتها، أدركت منذ اللحظة الأولى لدخولها مرحلة "ما بعد بوتفليقة" و "ما بعد البشير"، أن المعركة ما زالت في بدايتها، وأن تغيير رأس النظام والاطاحة بثلة قليلة من مريديه و"حوارييه" لا يضمن الانتقال الديمقراطي، رفضت من فورها خطط الانتقال ولم تأخذ على محمل الثقة والطمأنينة، وعود الجنرالات وتعهداتهم، فقد خبرتهم من قبل، واكتوت بنيرانهم ودفعت بنتيجتها، أفدح الاثمان طوال سنوات وعقود....
لقد اختبرت شعوب هذه الدول النتائج المريرة لتجربة الانقلابات العسكرية التي حملت زوراً اسم "ثورات"، والمؤكد أنها لن تسمح بتمرير انقلابات جديدة، تمتطي هذه المرة، صهوات ثورات شعبية مجيدة، سلمية ومتحضرة، لن تسمح بتحويلها ثوراتها الشعبية إلى انقلابات أو مشاريع انقلابات، وسيجد كل شعب عربي، طريقه للانتقال نحو الديمقراطية، في مواجهة نظام الاستبداد والفساد من جهة أو محاولات الجنرالات اختطاف ثوراتهم من جهة ثانية، أو سعي جهات رجعية وظلامية قيادة هذه الثورات نحو ضفاف نظم شمولية استبدادية "قروسطية" من جهة ثالثة... أنه مخاض عسير ومرير، وتجربة انتقال صعبة وطويلة الأمد.
اضف تعليق