بناء الانسان، الانسان هو العنصر الاول، بل الرئيسي في المركب الحضاري. وكل الدعوات الى النهوض الحضاري والتنمية الشاملة تستهدف الانسان في المقام الاول، باعتباره غاية التنمية وأداتها، فالإنسان هو محور العملية الحضارية والتنموية. والتنمية الحقيقية تعني تنمية الإنسان الذي هو رأس المال الحقيقي هدفا وغاية نهائية...
بناء الانسان، الانسان هو العنصر الاول، بل الرئيسي في المركب الحضاري. وكل الدعوات الى النهوض الحضاري والتنمية الشاملة تستهدف الانسان في المقام الاول، باعتباره غاية التنمية وأداتها، فالانسان هو محور العملية الحضارية والتنموية. والتنمية الحقيقية تعني تنمية الإنسان الذي هو رأس المال الحقيقي هدفا وغاية نهائية ومطلقة، وذلك في إطار توفير وإشباع جميع حاجاته المادية واللامادية، وتوفير الظروف والأجواء المجتمعية التي تحقق له قدر من الاستمتاع بحقوقه كإنسان. واتفقت البشرية منذ عام ١٩٩٠ على تعريف شامل للتنمية البشرية تم توثيقه في تقرير الامم المتحدة الذي صدر ذلك العام بعنوان "تقرير التنمية البشرية"، وتم تعديله لاحقا في تقرير عام 1995 كما يلي: "التنمية البشرية هي عملية توسيع لخيارات الناس، هذه الخيارات يمكن أن تكون مطلقة ويمكن أن تتغير بمرور الوقت، ولكن الخيارات الأساسية الثلاثة على جميع مستويات التنمية البشرية هي أن يعيش الناس حياة مديدة وصحية، وأن يكتسبوا معرفة وأن يحصلوا على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائق". غير ان التنمية البشرية لا تنتهي عند ذلك، فالخيارات الإضافية تتراوح من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى التمتع بفرص الخلق والإنتاج والتمتع بالاحترام الذاتي الشخصي وبحقوق الإنسان المكفولة.. وبالتالي فحياة الفرد لم تعد تقتصر فقط على العيش الكريم والتمتع بالصحة الجيدة والحصول على مسكن لائق بل يتعداها إلى مجموعة من الحقوق المتعلقة بالنفس البشرية ومدى قدرتها على التعبير عن ذاتها من جهة وتحقيقها من جهة ثانية.
وقد أدركت ماليزيا هذا الامر فتوجهت منذ الايام الاولى للاستقلال الى تركيز جهودها على الانسان الماليزي من اجل تثقيفه بالقيم الحضارية وإعداده ليكون عنصرا فاعلا ومشاركا في عملية التنمية. وسعت الى تحقيق ذلك من خلال عدة ادوات كان وما زال التعليم على راسها، وكانت نقطة الانطلاق في عام ١٩٥٦ حيث تم تشميل لجنة متخصصة لوضع نظام وطني للتعليم، تنسجم مخرجاته مع متطلبات التنمية وتربي النشئ الجديد على القيم الحضارية والإسلامية التي تدفع بعجلة التنمية، وجرى التاكيد على على ضرورة التمسك بالقيم الاخلاقية والعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية مع العمل على توفير وسائل تحصيل العلم في مختلف المراحل. واولت الدولةُ العمليةٓ التربوية والتعليمية اهتماما فائقا تجلى ماديا بحصة التعليم في الموازنة العامة حيث استحوذ التعليم على ٢٠-٢٥٪ من الموازنة وهو ما يشكل ثلاثة اضعاف ما يتفق على الجيش والدفاع. العلم هو العنصر الرابع في المركب الحضاري وهو من مستلزمات بناء الدولة الحضارية الحديثة وهذا ما سارت عليه ماليزيا منذ الاستقلال. والاهم من ذلك ان السياسة التعليمية الماليزية كانت امتدادا وتجسيدا لرؤيتها الشاملة للنهضة الحضارية والتنمية البشرية.
في المقابل معروف ما جرى للتعليم في العراق في الستين سنة الاخيرة وبالأخص منها سنوات حكم البعث عن جرى تسييس بل تبعيث العملية التربوية وربطها بفكر حزب البعث حول القائد الضرورة وعبادة الشخصية والحزب القائد والنظرة الشوفينية العنصرية للتاريخ والحياة. وبعد عام ٢٠٠٣ اهملت العملية التربوية وألحقت بنظام المحاصصة مع قلة التخصيصات المالية وغياب النظرة الحضارية الوطنية للعملية التربوية.
ومنذ اكثر من ١٠ سنوات ركزت على ضرورة وجود نظام تربوي حضاري حديث يكون اساسا لبناء دولة حضارية حديثة في العراق، ولكن دون جدوى.
الاسلام الحضاري، سجل الاسلام حضورا متميزا في بلدان العالم الاسلامي منذ سقوط الدولة العثمانية في الربع الاول من القرن الماضي. وقد تميز هذا الحضور بتمظهرات مختلفة تراوحت من التنكر للدين تحت ستار العلمانية (تركيا الاتاتوركية) او جعل الاسلام مسوغا لقيام الدولة (انفصال باكستان عن الهند) او استخدام الدين من قبل النظام العلماني لاغراض سياسية تشمل محاربة الاحزاب السياسية الاسلامية والمؤسسات الدينية التقليدية(نظام البعث في العراق) ..
وكان على ماليزيا ان تحل مسالة علاقة الدولة بالدين بشكل يساعد على دفع عجلة التنمية الى امام وجعل الدين احد محفزات النهضة.
يشكل المسلمون ما نسبته حوالي ٦٠٪ من مجموع السكان. ويكاد يكون كل المسلمين من الملاويين، واللافت للنظر ان الدستور الماليزي يعرف الانسان الملاوي بانه "شخص يقر بالإسلام دينا و يتكلم اللغة الملايوية ويلتزم بالأعراف الملايوية" (المادة ١٦٠). وهذا ما يجعل من الملايوية قومية قائمة على اساس الدين. "وهذا يعني تداخلا بين ما هو ديني وما هو قومي، بحيث حملت قومية الملايو صفة دينية فكان الاسلام عنصرا حاسما في تحديد هويتهم".(التجربة الماليزية، ص ٣٩)
وتمثل المقاربة الماليزية لهذه المسالة المعقدة بمحورين، مثل المحور الاول ما لم تقم به الدولة، والمحور الثاني ما قامت به الدولة.
فاما على صعيد المحور الاول فان الدولة لم تتحرك في مجالين: الاول مجال تبني اقامة دولة اسلامية على غرار باكستان، والثاني عدم اتخاذ موقف علماني نافي للدين كما فعلت تركيا الاتاتوركية. وبالتالي تجنبت ماليزيا التوتر مع مواطنيها المسلمين، والقوى او المؤسسات الدينية في البلاد.
واما على المستوى الثاني فقد قامت الدولة باربعة امور هي:
اولا، ضمان موقع واضح للاسلام في الدستور.
ثانيا، تبني سياسة علمانية معتدلة.
ثالثا، احترام الاديان الاخرى.
رابعا، وهو الاهم: توظيف القيم الحضارية في الدين الاسلامي لصالح مشروع التنمية الامر الذي شكل عامل دفع ايجابي لحركة النهضة والتنمية وتفاعل الشعب مع خططها الحكومية. ولهذا صح ان نعتبر التجربة الماليزية انموذجا اسلاميا قابلا للاحتذاء والمحاكاة.
وهذه مقاربة عملية وواقعية. فمن الصحيح ان يجري توظيف كل قدرات المجتمع في مشروع التنمية، واذا كان الاسلام بما يملكه من طاقة على التحريك هو احدى هذه القدرات المجتمعية فلماذا لا يجري توظيفه لصالح مشروع التنمية؟!
والحقيقة ان هذا المقترب التنموي (واعني به توظيف القيم الاسلامية العليا في مشروع النهوض والتنمية) سبق ان نادى به السيد محمد باقر الصدر وهو يتحدث، في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا، عن المركب الحضاري المنسجم مع نفسية الامة وضرورته لنجاح خطط التنمية في بلدان العالم الاسلامي.
وبذا تميز مقترب "الاسلام الحضاري" عن المقتربين الاخرين واعني بهما: "الاسلام الديني" و"الاسلام السياسي".
في العراق اختلف التعاطي مع المسالة الدينية سواء من قبل الدولة او الاحزاب السياسية او الاحزاب الاسلامية.
فاما الدولة فقد كان موقفها على العموم سلبيا من الدين، وبلغت السلبية العدائية ذروتها مع صعود النظام البعثي العلماني الذي لم يتوانَ عن محاربة الدين واستغلاله في نفس الوقت.
واما الاحزاب السياسية فقد كان موقفها وما زال سلبيا من الدين تحت ستار العلمانية.
في حين اتجه الاسلاميون بقوة الى الاسلام الديني والاسلام السياسي.
وكان نتيجة هذه السياسات المتضاربة حصول الصدام المزمن بين الاسلاميين وغيرهم.
ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان محمد باقر الصدر وحده رفع راية الاسلام الحضاري، لكن البيئة السياسية والاجتماعية والدينية لم تكن مستعدة للاستجابة لهذا النوع من الطرح، على عكس ما حصل في ماليزيا.
والمؤسف انه جرى في السنوات الاخيرة الخروج بالدين بعيدا عن مشروع التنمية ودخلت الى الممارسة الدينية ظواهر سلبية لا تمت الى الاسلام وقيمه الحضارية بصلة.
اضف تعليق