يبدو قُدر لنا ألا نعبر المحنة قبل أن ندفع أثمانها، ومن الأثمان ما هو كارثي، و عندما تكون الأثمان بهذا الهول، فكن على يقين ان مَن يدير الامور جاهل بها، وعليك ألا تتوقع منه حلا، الا بعد حين، وقد يطول هذا الحين، لأنه يكتسب المعرفة بالتجربة...
يبدو قُدر لنا ألا نعبر المحنة قبل أن ندفع أثمانها، ومن الأثمان ما هو كارثي، و عندما تكون الأثمان بهذا الهول، فكن على يقين ان مَن يدير الامور جاهل بها، وعليك ألا تتوقع منه حلا، الا بعد حين، وقد يطول هذا الحين، لأنه يكتسب المعرفة بالتجربة وليس بالتعليم الذي يمنحه بُعد النظر، ومثله لا يعرف جحيم الطائفية الا بعد أن يكتوي بجمرها، ولا يُدرك عظمة وحدة المجتمع الا بعد أن تبرق سيوف الأعداء في عقر الدار، لقد ابتلينا بالمغامرين وقصار النظر والجهلة والذين يرون الأمور بعيون غيرهم ان كانوا أصدقاء او أشقاء، ولم يستحوا منها، من ستين عاما، أقصد مذ أبصرت الدنيا وربما قبل ذلك أيضا، والعراقيون يحلمون بالعبور الى الضفة الاخرى، ومنهم من فنيت أعمارهم جيلا بعد جيلا من دون أن يروها مع انهم دفعوا كل ضرائبها قسرا او طوعا، بينما ظلت الحسرات تخنق أنفاس مَن تبقى وهم يرون كل من حولهم ينعمون بالسلام والأمان والعيش الرغيد والحياة المدنية التي يحكمها القانون وليس نزعات الأوصياء.
العبور هاجس العراقيين الذي يصبح ويمسي معهم كل يوم، وكانوا وعدوا به مرارا، وآخر تلك الوعود ما قطعه النظام السابق على نفسه في منتصف التسعينات عند اندلاع أزمة خانقة بين العراق وأمريكا أسماها (العبور)، وكنا نظن ان بانتهائها سنتخلص من الطحين الأسود، وسنخلع (البساطيل) والبدلات الخاكية، وسنعيش المتبقي من سنوات العمر من دون أن يطاردنا كابوس الالتحاق بالعسكرية، نعم، الأبناء لا يعرفون عن هذا الكابوس سوى مفرداته، و لا يمكن أن تدل على معانيه، بل تكمن في كم مشاعر الكآبة التي لا ينفس عنها ذرف الدموع، مع ما للدموع من أثر في اخماد حرائق الروح، لكن العبور لم يحصل، بل انتقلنا الى وحل آخر أغلق جميع أبواب الأمل.
وأردت لفكرة العبور ان تكون حافزا للشباب، وبث روح التحدي في نفوسهم لمواجهة ما خلفه الآباء من خراب، فقلت له وكنت تصورت انه استوعب فكرتي التي أردتها ان تكون موضوعا لفيلمه التلفزيوني القصير جدا، يا أحمد بطلك طالب عصامي يتقلب بين أعمال شتى، مرة يبيع في عربة واخرى عامل بناء وثالثة في ( بسطية ) على رصيف ورابعة صباغ، وفي كل مشهد ينظر الى الجسر الذي يصل ضفتي نهر ديالى الذي يداعب شاطئيه خير وفير من ماء رقراق، في كل مشهد لا تنسى يا أحمد، الجسر، الجسر، وفي نهاية الفيلم بطلك يركض على الجسر والكاميرا تلهث معه الى أن يعبر الجسر، لابد من عبور الجسر، وبعد العبور نراه ببدلة زرقاء وخوذة مهندس يوجه عمالا في مشروع بناء، نريده يا أحمد بخمس دقائق بلا حوار سوى المؤثرات، هو رسالة تفيد أن الكادحين يعبرون، لكن أحمد استبدل الجسر بمجسر، وأوقف بطله عند منتصفه، ولم يعبر البطل، بل أهدر وقته متفرجا على المارة!.
لم يمكّن أحمد بطله من العبور،وكذلك أطفال الموصل قدر لهم ألا يعبروا من ضفة الحزن والدماء وصور القتلى وخراب البيوت وتدمير المدن والسواد الذي يلف المدينة، الى ضفة البهجة والفرح، وبدل ان تمتلىء أفواههم بالقهقهات امتلأت بالماء، فماتوا غرقا في واحدة من أبشع جرائم المهملين، يا سادة : ادارة الدول لا تتم بالأربطة البراقة والثرثرات الفارغة والمكاتب الفخمة، وليس القيادة باعتلاء المصفحات والتبختر في المسير، بل بخدمة الناس ومحاسبة الفاسدين ومتابعة المهملين واعمار البلاد والانشغال بعبور العراقيين، في كل يوم لدينا كارثة، وفي كل ركن نائحة، ولم تهتز منكم شعرة أو تدمع عين،او تغطوا وجوهكم خجلا من الفشل، لكن أقول لكم وتذكروا : سنعبر حتما وانتم ستعبرون أيضا، لكن لكل منا وجهته بالعبور.
اضف تعليق