عندما نتكلم عن خطر الفقر على بناء الدولة المدنية في العراق، فهذا الكلام ليس مجرد انفعال عاطفي ناتج عن المعلومات المتواترة المرتبطة بتصاعد مستويات الفقر في هذا البلد، او نتيجة المشاهدات الميدانية لجموع الفقراء الذين يمكن بسهولة رؤيتهم في الشوارع العامة والاحياء الفقيرة البائسة التي...
عندما نتكلم عن خطر الفقر على بناء الدولة المدنية في العراق، فهذا الكلام ليس مجرد انفعال عاطفي ناتج عن المعلومات المتواترة المرتبطة بتصاعد مستويات الفقر في هذا البلد، او نتيجة المشاهدات الميدانية لجموع الفقراء الذين يمكن بسهولة رؤيتهم في الشوارع العامة والاحياء الفقيرة البائسة التي تزخر بها مدن العراق وضواحيها، اذ على الرغم من حضور العاطفة القوي في هذا المشهد المؤلم الا ان الأسس الموضوعية تبقى هي الحاكمة عند تحليل وتقييم خطر الفقر.
ان استمرار وتصاعد نسب الفقر ينذر بضياع الديمقراطية العراقية الهشة، وانهيار الثقة بمشروعها ورجالها وقيمها، كما يبذر البذور المنتجة لكل التهديدات السياسية والاجتماعية والأمنية-الان وفي المستقبل-فالفقر هو الكلمة الملخصة للفشل الحكومي التام، وهو صندوق باندورا الذي ستخرج منه كل الشرور، لماذا؟
توجد الكثير من الكتابات التي تناولت موضوع مخاطر الفقر بالبحث والتحليل، الا ان ما نرغب في التركيز عليه من بينها هو تلك الآراء التي قدمها الكاتب الهندي الاصل (أمارتيا صن) في كتابه القيم الموسوم (التنمية حرية)، اذ وصف الفقر بأنه ليس مجرد نقص في مستوى دخل الفرد، يقود الى اضعاف قدرته الشرائية، وانما يترتب على هذا النقص نقص اخطر في قدراته، وهذه القدرات هي "الحريات الموضوعية التي يحظى بها لبناء نوع الحياة التي لديه الأسباب لإضفاء قيمة عليها"، فانخفاض دخل الافراد يعني حرمانهم من الأداة الوحيدة لتوليد قدراتهم، واي حرمان نسبي في الدخل يقود الى حرمان مطلق في القدرات. (أمارتيا صن، التنمية حرية، ص137-146).
وهذا يعني تماما أن الفقراء يفقدون حرياتهم، وعندما يفقدون هذه الحريات سيفقدون معها أي قدرة إبداعية لبناء الحياة او تجديدها، كما سيفقدون القدرة على الانفتاح على الآخر والتسامح مع رأيه المخالف، ويكونون أداة يمكن استثارتها بسهولة لتحقيق اجندات متخلفة او تبني أفكار وسلوكيات منحرفة ومتطرفة، وعندها يكون حديث النخبة السياسية او المثقفة عن الديمقراطية والأخلاق المدنية مجرد لغو فارغ يفتقر الى الأنصار والمؤيدين.
هذا التأثير المدمر للفقر يدفع الى عدم الاستغراب من موقف الفيلسوف الكبير (ارسطو) عندما جعل الفقر كقاعدة من قواعد الحكم المستبد الى جانب الفساد والجهل، بل يكاد يكون الفقر هو القاطرة المميتة التي تقود المجتمع نحو تدميره الذاتي تمهيدا لإخضاعه من قبل أصحاب السلطة والنفوذ المنحرف.
لقد خلصت التجربة التاريخية للبشر على اختلاف مشاربهم الفكرية والعقائدية والاثنية الى حقيقة لا جدال حولها مفادها: ان الفقر هو العدو الأول للحرية سواء كانت حرية فردية ام جماعية، فالفقراء تُسحق كرامتهم الاجتماعية، وينعدم لديهم الشعور بالمساواة مع غيرهم من أبناء المجتمع، كما تضعف مشاركتهم في الأمور العامة، وتنخفض معارفهم ومهاراتهم النظرية والعملية، وتدفعهم ظروف حياتهم البائسة الى تقبل الكثير من القيود والاحكام التي تتناقض مع ارادتهم وفعلهم الحر. لذا تجد الفقير محطما، ذليلا، مسلوب الإرادة، يحيا مهموما بحاجات يومه، أما المستقبل فخارج عن إطار المفكر فيه لديه.
ولا يتوقف خطر الفقر عند ما تقدم، بل أن الكارثة الكبرى تكمن في ان الفقر وما يرتبط به من منظومة قيم وسلوك غالبا ما يجري توريثه/ توريثها من الإباء الى الأبناء والاحفاد، من خلال ما يسميه الاقتصاديون "دوائر الفقر" التي تجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة من الفقر والقيم المتخلفة المرتبطة به. وعليه، تجد أن معظم الطغاة والجبارين وأصحاب الطموح الاعمى فهموا قيمة الفقر في اخضاع المجتمعات التي يرومون حكمها، فتراهم يحرصون كل الحرص على زيادة نسبة الفقر بين الناس لحرمانهم من قدراتهم الحقيقية المقاومة للظلم والطغيان، تلك القدرات التي تشكل الأساس الحقيقي لإنسانيتهم، وتطلعهم الطامح نحو حياة أفضل.
ان إدراك حجم التأثير السلبي للفقر على بناء الانسان يجعل أي نظرية سياسية او توجه إصلاحي لبناء الدولة الحديثة محفوفا بالمخاطر ولا يكتب له النجاح ما لم تكن محاربة الفقر في قمة سلم أولويات عملها/عمله. فتحرير الانسان من فقره يعني تحرير ارادته الحرة الخلاقة، وإطلاق طاقة الحياة وروح الأمل والمغامرة لديه، ليصبح هو أداة التغيير والبناء الجديد. فالرفاه الاقتصادي، ليس ضمانة للإنسان فقط، بل هو ضمانة لازمة ومهمة لتشييد أسس المدنية الصحيحة للدولة أيضا، لذا ليس غريبا ان نرى جميع الدول المدنية التي حققت مستوى متقدما من الاستقرار هي نفسها الدول التي لديها مستوى متقدما من الرفاه الاقتصادي، اذ يكاد ينعدم الفقر بين سكانها أو ينخفض الى أدنى مستوياته. كما تجد ان رقة الطباع، والسلوك الحضاري للمجتمع، وانخفاض مستويات العنف والتطرف – الفكري والسلوكي-تتناسب طرديا مع مستوى الرفاه الاقتصادي العام، وعكسيا مع مستوى الفقر.
صفوة القول، إن الواقع العراقي الذي وصل فيه الفقر الى مستويات مخيفة، يتطلب وقفة عاجلة لإطلاق جرس الإنذار بوجه صانع القرار من اجل التعجيل بوضع استراتيجيات واقعية وملموسة وحاسمة لمعالجة الفقر بين السكان، فنسب الفقر المرتفعة تنذر بعواقب وخيمة على الدولة والانسان ستصل الى حد اسقاط المدنية والديمقراطية وإعادة انتاج تيارات العنف والجريمة والإرهاب والدكتاتورية من جديد.
اضف تعليق