إن تبادل الثقافات، كما حوار الحضارات، من المسائل الايجابية والمطلوبة في آن، بل هي من متطلبات الرقي والتقدم وتحقيق السلام والاستقرار، فينبغي التحلّي بمزيد من الحكمة والتعقّل لعدم الانزلاق في صراعات وأزمات داخل كيان المجتمع والأسرة نحن في غنىً عنها، بينما نحن بأمس الحاجة الى التجارب...
من المفترض ان تكون الافكار والتجارب القادمة من الغرب، مبعث تفاؤل في مضمار العمل على التطوير والتنمية، بدعوى السبق العلمي علينا، وأن قطار الزمن لا ينتظر أحد، فهو ماضٍ بسرعة، لذا نجدنا مذعنين للأمر الواقع، باعتماد ما في البلاد المتقدمة للمساعدة على تلبية حاجاتنا من العلوم والمعارف، مثل الطب والهندسة والفضاء والجيولوجيا.
وقد استفادت شعوب ممن يطلق عليها بـ "النامية" مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية من تلكم العلوم من خلال الدراسة في الجامعات الاميركية او البريطانية او الكندية وغيرها، في المساعدة على انقاذ اقتصادها من الضياع، ثم التقدم بخطوات ثابتة نحو التنمية الشاملة صناعياً وزراعياً وحتى انسانياً، فاصبح هنالك اقتصاد كوري جنوبي متقدم، كما نجد الاقتصاد الصيني المتصاعد والمنافس بشدة أعتى اقتصاديات العالم، هؤلاء الذين تلقوا العلوم في تكنولوجيا المعلومات والصناعات الثقيلة وتقنية الاتصالات وهندسة الطرق والجسور، لم يتحولوا الى اشخاص اميركيين، ولا بريطانيين، إنما يفخرون أنهم ابناء بلدهم، ينتمون الى عوائل فقيرة، والى مجتمع له عادات وتقاليد وديانات تختلف جذرياً مع ما موجود في بلاد الغرب، لذا فان التجارب والعلوم القادمة من الغرب، وإن كانت مصحوبة برياح ثقافية، ولكنها لم تؤثر كثيراً على ثقافة هذه الشعوب، فقد فالتغيّر في حياة هذه الشعوب لم يتطاول على التقاليد والاعراف والدين، إلا الشيء القليل.
التغرّب في ورطة في بلادنا!
رب سائل عن الضير في ان يكون الانسان غربياً، كما هو شرقياً؟ وهل من عيب في ذات الغرب؟!
الغرب، عبارة عن قيم ومفاهيم وتجارب تطورت وأفادت أوربا بدايةً، ثم انتقلت التجربة الى بلاد أخرى ليتحول الغرب الى منظومة حضارية تضم الولايات المتحدة وكندا، ثم تنطلق الى المحيط الهادئ بعيداً نحو استراليا، ومن ثم لتصل الى اليابان، لذا فالغرب، بما يحمله من ليبرالية وديمقراطية وقيم اجتماعية ونظم وقوانين، ليس غريباً بالمرة، فهو منهم واليهم، بينما هو كذلك في بلادنا الاسلامية التي خبرت حضارة متألقة بانجازات علمية ومعرفية هائلة يقرّ بفضلها الغرب نفسه، فالانسان المسلم الذي يدعي انه يريد ان يعيش كما يعيش الانسان الغربي، فانه يصطدم بحقيقة التاريخ والجغرافيا والتراث، فالقضية ليست قميصاً يتم استبداله بسهولة، ولذا ما نلاحظه من محاولات التغرّب في بلادنا –والعراق مثالاً- نراها مجرد مشاهد تمرد عنيف على الاعراف والقوانين، بل حتى الهوية، قبل التفكير بالاقتداء بالغرب في طريقة التفكير والسلوك، لنأخذ مستحضرات التجميل والعطور مثالاً، فهي من مبتكرات الغرب، وقد ابدعتها شركات فرنسية شهيرة ثم أوكلت أمر الانتاج الغزير الى بلدان مختلفة في العالم لتلبية الطلبات المتزايدة في العالم، ولاسيما العالم الاسلامي، وتحت نفس الماركات العالمية، لنرَ كيفية استخدام المرأة او الفتاة في فرنسا واوربا واميركا، ونطابقه مع ما يسود في بلادنا، فهل نجد وجه للمقارنة؟ كذلك الحال بالنسبة للالبسة والمأكولات، وايضاً بالنسبة للاحتفال برأس السنة الميلادية، وعندما تستوقف أحدهم وتسأله عما اذا كان ما يقوم به –أو تقوم به- مطابقٌ لما موجود في البلاد الغربية، كون منشأ العمل غربياً، سيواجه صعوبة في الاجابة، لأن ببساطة هو لم يذهب هناك ويعيش مع المجتمع الغربي ليعرف كيف يفكرون أولاً؛ ثم كيف يتصرفون ثانياً.
هذا الصمت والحيرة من شأنها التسبب في شحن النفوس بقدرات سلبية لمواجهة انتقادات محتملة من لدن شريحة اخرى في المجتمع ترفض هذا الجنوح في السلوك والتفكير، فنكون امام برميل بارود لا يعوزه سوى شرارة للانفجار، ولذا نجد ان مظاهر تغرّب، ليس فقط في يوم رأس السنة الميلادية، وانما في سائر ايام السنة، وفي اماكن عدّة، تجري بهدوء أمام انظار الناس دون ان يحركوا ساكناً او يبدو رأياً في الموضوع، ربما لادراكهم أن الظاهرة لا تُعالج بالاعتراض والاحتجاج، لان ببساطة، سيكون الرد احتجاجاً بالمقابل على سوء الاوضاع وأنهم بهذه الاعمال انما يريدون التخلص من واقعهم المرير –لسان حالهم طبعاً- وعلى الصعد كافة، وهذا ما نلاحظه في بعض الجامعات وفي الاسواق.
اهتزاز جدار الأسرة
عندما يجري الحديث عن تأثير الثقافة الغربية على الأسرة من خلال القنوات الفضائية او الانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، فان المخاوف تتجه الى مساقط هذا التأثير، فالطفل الصغير والفتاة والشاب عندما يتخذ قراره بأن ينسلخ من هويته وانتمائه، سيعرض أسرته الى خطر الاهتزاز في أي لحظة صدام بينه وبين الأبوين على سلوك معين، او طريقة تفكير واختيار شيء ما، فالابوين، أو أحدهما، يتحدثان عن التراث والقيم والمبادئ التي كبروا عليها، بل وجعلوها مادة إنشائية لتربية هؤلاء الاولاد، فكيف يقبلون بالتنكّر والتمرد مهما كانت المسوغات؟
من ابرز نقاط التصادم المبتلى بها معظم المجتمعات الاسلامية، سوء تفسير قيمة الحرية، ففي العهود الماضية لم يكن الابناء يعانون مشكلة في الحرية من لدن الآباء، فلم يكن ثمة شعور بالقمع والاضطهاد وتكميم الافواه وتقييد الحركة، بل كان البنين والبنات يتمتعون بمختلف الامكانات والتسهيلات حسب مستويات المعيشة، وكانوا يشعرون بالسعادة والرضى، ما عدا بعض الاعراف والتقاليد التي كانت سائدة في مناطق غير حضرية مثل الارياف والبادية، وهي ليست كل المجتمع، بينما اليوم، نجد ان الأب بنفس تلك الاموال التي ينفقها على الابناء، وبنفس تلك المحبة والمودة التي كان يغدقها عليهم فيما مضى من الزمن، يواجه حالات التمرد والمطالبة بأمور لا علاقة لا بالحرية كقيمة انسانية، انما هي انماط من السلوك والتفكير الجديدين على الأسرة والمجتمع، مثل خروج الفتاة ضمن مواعيد مع الصديقات لوحدهنّ في الاسواق والمطاعم ومدن الألعاب، بينما نلاحظ الشاب في سيارته يرفع صوت الموسيقى الصاخبة ليُشرك الآخرين فيما يسمعه! وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
إن تبادل الثقافات، كما حوار الحضارات، من المسائل الايجابية والمطلوبة في آن، بل هي من متطلبات الرقي والتقدم وتحقيق السلام والاستقرار، فينبغي التحلّي بمزيد من الحكمة والتعقّل لعدم الانزلاق في صراعات وأزمات داخل كيان المجتمع والأسرة نحن في غنىً عنها، بينما نحن بأمس الحاجة الى التجارب والعلوم للمساعدة على النهوض بالاقتصاد مما هو عليه من سبات وتخلف.
فاذا تحدث البعض ممن يزعمون انهم يقلدون الغرب في كل شيء، عن الهزائم والفشل والفساد المستشري في بلادنا، وانهم انما يريدون التخلّص من هذا الواقع، فانه يعد شعور ايجابي يفيد لانطلاقة نحو التغيير الحقيقي بالتوجه الجادّ والمخلص نحو عوامل إسعاد الشعوب الغربية وما جعلها تتخلص تستفيد من تجارب أزمات و حروب دامية عاشتها بداية القرن العشرين.
اضف تعليق