تحقيق التوازن بين العقل والعاطفة، فلابد من وجود الاثنين في حياة الانسان، فبالعقل نفكر ونجرب وننتج، وبالعاطفة نجعل لهذا الانتاج الفكري او الصناعي بعداً انسانياً وليس فقط تجارياً وربحياً، فهي الوحيدة القادرة على توجيه المنتج العقلي صوب الصلاح والفلاح، بفضل القيم الاخلاقية والدينية...
يُحكى أن امرأة شكت الى القاضي من زوجها على أنه أهانها نفسياً في الايام الاولى من زواجهما، وطلبت الطلاق منه، وعندما استدعى القاضي الزوج، سأله عن صحة ما تدعيه زوجته، فأكد له ذلك، فسأله عن كيفية هذه الاهانة ولماذا؟! قال الزوج: بعد ايام من زواجنا سررت باني تزوجت امرأة واسعة الأفق في تفكيرها، فكانت تحدثني عن قضايا عالمية مثل الصحة والبيئة والتجارة وغيرها، فكنت اختار لها أفضل سيارة لاصطحابها الى المتنزه، بيد ان هذا النوع من التفكير بدأ ينحسر في قادم الايام، فبدأت تتحدث عن مدينتها وعشيرتها والايجابيات الموجودة لديهما، فقلت: من يكون هذا مستوى تفكيره لا يستحق الاهتمام الكبير، فعندما حان موعد النزهة تودجهت الى محطة الحافلات العامة واستقلينا حافلة نقل الركاب، وفي المرة الثالثة، تحول حديثها الى شخصها واقارابها، وما لهم من ممتلكات وامتيازات، فقلت؛ الافضل تركها وحدها في البيت واذهب مع اصدقائي الى المتنزه!
هي قصة للعبرة وحسب، تحمل دلالات واضحة عن أنماط التفكير وسعته لدى الناس بشكل عام، ولدى الشريحة المثقفة بشكل خاص، وقد اثبتت التجارب ان سعة أبعاد التفكير له علاقة وثيقة بمدى التطور الذي يحرزه الانسان في مختلف مجالات الحياة، وما الأمم المتقدمة والمهيمنة في العالم إلا وقد اتصفت منذ بداية مشوارها بأفق التفكير الواسع جداً، والامثلة الشاخصة امامنا؛ اليابان والمانيا واميركا، في بدايات القرن العشرين، ثم الصين و روسيا في القرن الواحد والعشرين، هذه الدولة تقدمت وهيمنت بفضل نمط التفكير العالمي لشريحة من شبابها الواعي والمتطلع الى آفاق المستقبل.
هذه الحقيقة لا يماري فيها أحد كونها منطقية بامتياز، ولكن؛ مع ذلك، نجد معظم شعوبنا تُصر حتى اليوم، على نمط التفكير الضيق، وتظل تلف وتدور حول الاموال والعقارات والامتيازات والسيارات والبيوت الفارهة وغيرها من الاهتمامات الخاصة.
العلماء والمفكرون بحثوا في هذه الظاهرة مبكراً وقد وضع بعضهم اليد على الجرح، وتحدث عن استفحال الجانب العاطفي في التفكير مع ضمور ملحوظ في الجانب العقلي، فالجانب العاطفي والمعنوي ايضاً، يدعو الانسان للاسترخاء الى مواعيد مع المعاجز والامداد الغيبي، وحتى ما يعده بعض الناس في العراق بنوع من الكرامة تحت مسمّى "يشوّر"، أي امتلاكه للقدرة الخارقة على رد الصاع صاعين لمن يسيء أو يلحق بصاحب الكرامة أي ضرر، وعندما نراجع النصوص الدينية، من الكتاب والسنّة الشريفة، نجد التأكيد الوافر على أن مجريات الامور في الحياة قائمة على معادلة الاسباب والعلل اكثر من أي شيء آخر. نعم؛ ربما تكون للأمور الغيبية مدخلية في بعض الحالات الخاصة والاستثنائية في ظروف معينة، ولكن ليس بمعنى استمرار الحياة على هذه الوتيرة، لنأخذ مثالاً على ذلك من عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما وضع يده المباركة على عين ذلك الشاب اليافع، وكانت قد سالت وكادت تسبب له العمى خلال الحرب مع المشركين، فكان أن اعادها الى مكانها وصار بصيراً كأن لم يمسها شيء، أما في واقعة الطف، وفيها سبط رسول الله، وآخر ابن بنت نبي بين المشرق والمغرب في الارض، تعرض لتلك الجراحات البليغة والمريرة، فلم تبرأ اصابة واحدة في جسد الامام الحسين، بل كانت الحجارة تسقط على وجهه الشريف وتسبب له الجرح البليغ.
إن الحالة العاطفية تمثل نشاطاً فردياً يجيّش فيها الانسان مشاعره الايجابية تجاه شخص ما، او قضية ما، يتفاعل معها ويندمج معها باشكال مختلفة، وليس بالضرورة ان تنعكس بآثارها على المحيط الاجتماعي، فهي همّ خاص بالانسان، بينما إعمال العقل يفضي الى نتائج تنعكس على الواقع الخارجي فتكون كشفاً علمياً باهراً في مجالات طبية، مثل الجراحة والاستنساخ، او في هندسة البناء او في علم الجينات، او نجاحاً كبيراً في الانتاج والتصدير وخلق فرص عمل وتحسين الحالة المعيشية للناس.
وهذا يدعونا الى تحقيق التوازن بين العقل والعاطفة، فلابد من وجود الاثنين في حياة الانسان، فبالعقل نفكر ونجرب وننتج، وبالعاطفة نجعل لهذا الانتاج الفكري او الصناعي بعداً انسانياً وليس فقط تجارياً وربحياً، فهي الوحيدة القادرة على توجيه المنتج العقلي صوب الصلاح والفلاح، بفضل القيم الاخلاقية والدينية، وقد أدرك الغربيون اهمية هذا التوازن فتوجهوا نحو المشاريع الخيرية وتأسيس المنظمات الانسانية الدولية، مثل؛ اطباء بلا حدود، او الجمعيات المعنية بحقوق المرأة او مكافحة الأمية والأوبئة الفتاكة، بل حتى بدأوا عودة خجولة باتجاه الكنيسة والقيم الدينية الخاصة بهم.
إن الرأسمالية انتجت الجشع والانانية وحب الأنا، بدعوى ان هذا استحقاق حضاري لهم، فهي أهل الفضل على العالم بعلومهم والتطور، بينما الانسان المسلم صار جشعاً وانانياً وهو لا يحمل من العلم إلا قليلاً، ولا يكاد ينتج لبلده حتى المياه الصالحة للشرب.
فاذا اراد الواحد منّا التفكير عالمياً، عليه توجيه قدراته المادية من أموال وعلوم وابداعات صوب مشاريع واسعة الابعاد تخترق الحدود الجغرافية المصطنعة، والحواجز النفسية النابعة من الانتماءات العشارية والسياسية والمناطقية.
احد علماء الدين البارزين يذكر أن من المتسحب ان يقرأ الانسان الآية الكريمة قبل لحظات من أذان الفجر، وقبل ان يقف للصلاة: (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب). هكذا كان الانسان المسلم في العهود الذهبية حيث كان أفق تفكيره يتجاوز قبيلته وقوميته وموقعه الجغرافي، نحو مشارق الارض ومغاربها لنشر تعاليم وقيم الاسلام بما يخدم البشرية جمعاء.
اضف تعليق