العقل في اللغة العربية يعني أدرك وأمسك بعقله فكره. اذ يفيد الجذر اللغوي العربي عقل المنع والرباط ويقال عقل الناقة أي ربطها وقيّدها، وبالتالي يمكن أن نستنتج أن العقل في اللغة العربية هو الفكر المقيد والمحدد بقواعد وقوانين ومبادئ. أما بالاغريقية يسمى لوغوس Logos أي...

" لقد اقتصر دور العقل على إلقاء الكرة في الملعب الكوني وحال انطلاق تلك الكرة تنطلق المواد سريعا وحدها في طريقها الصاخب النابض بالحياة"1

العقل في اللغة العربية يعني أدرك وأمسك بعقله فكره. اذ يفيد الجذر اللغوي العربي عقل المنع والرباط ويقال عقل الناقة أي ربطها وقيّدها، وبالتالي يمكن أن نستنتج أن العقل في اللغة العربية هو الفكر المقيد والمحدد بقواعد وقوانين ومبادئ. أما بالاغريقية يسمى لوغوس Logos أي الربط والجمع بين الكلمات وبين الأفكار. انه لغة وكلام وأساس وسبب وجود الشيء. في حين يعني Ratio باللاتينية نسق من الأفكار المتماسكة غير المتناقضة، المرتبطة وفق استدلال منتظم. لكن كيف يمكن للعقل أن يعقل ذاته قبل عقله للعالم؟ وكيف يتحول من أداة للتفكير الفلسفي إلى موضوع أساسي للتفلسف؟ وما المقصود بفلسفة العقل؟

من هذا المنطلق يمكن التمييز بين معنى موضوعي ومعنى ذاتي في الحقل الدلالي الفلسفي للعقل:

المعنى الموضوعي يشير إلى أساس الاستدلال ووجود الأشياء ذاتها: العقل هو الأساس الموضوعي للاستدلال أو لوجود شيء معين، ويفيد أمرين: الأول عقل الاستنتاج بإصابة الحد الأوسط في القياس المنطقي بما أن الحقيقة تقود إلى استخلاص حقيقة أخرى منها كانت غير معروفة في البداية2.

المعنى الذاتي يفيد ملكة اكتشاف والوصل والفصل بين الحقائق. بهذا المعنى يكون العقل ملكة تعلم الأسباب التي تقف وراء الأشياء والكلمات3. إن التوجه وفق العقل وقيادة الإنسان لحياته وفق قواعده وتوجيهاته هو معرف الباعث الذي يبرره. أما عقل الوجود فهو الذي يولي الاهتمام بواقع معطى ويتيح إمكانية تفسيره، وبالتالي هو الذي يؤسس استدلالا تفسيرا ويحدد سببية الواقعة ويعطيها علتها الغائية4. وبأكثر تحديد العقل التام والبدئي للأشياء هو القدرة التي توجد كل الأشياء وتستكمل اندراجها في الكون5.

بيد أن العقل في المعنى الثاني هو الملكة الخاصة بالإنسان التي تعمل على تشكيل الأفكار وتمييز الحق عن الباطل وفهم تسلسل الوقائع والعلاقات بين الحقائق. على هذا النحو العقل هو هذا الجزء من النفس الذي يكتمل فيه الفكر ويضمن امكانياته في المعرفة وفهم الأشياء وتقييم الغايات واختيار الوسائل بعد تروي6.

فبصورة عامة يعتبر العقل الملكة الخاصة بالإنسان التي بها يستدل ويربط بين المفاهيم وبين القضايا بالاعتماد على مبادئ منطقية. بهذا يختلف الفكر الاستدلالي عن الإدراك الحدسي لكونه ملكة اكتشاف والتحقق من النتائج بالتثبت من صدق الفرضيات بعد امتحانها وغربلتها. هكذا يعد العقل ملكة تفكير وتعقل واستدلال وذلك من خلال ربط الأفكار والقضايا وفق تسلسل منطقي واستخلاص التبعات والمستلزمات.

كما يتعارض العقل هنا مع التجربة ويمثل سلطة تفسيرية وقدرة توضيحية للوقائع الحسية من حيث هي تجليات للقوانين العقلية ويعمل على أن يكون ملكة استخلاص مجموعة من النتائج بالانطلاق من قواعد صورية7. في نفس الإطار يمثل العقل القدر على الحكم الحقيقي على الأشياء والأشخاص بالتمييز بين الصواب والخطأ وبالتالي يشير إلى ملكة استعمال التمثلات في معرفة الأشياء وحسن تقييم قيمتها المناسبة. بعد ذلك تظهر هذه القدرة عند كل كائن بشري وتسمى نورا طبيعيا وتختلف عن الإيمان ويمكن تثقيفها عن طريق المنهج وتسمح لكل إنسان من تأسيس أفكاره الخاصة بواسطة الحقيقة الموضوعية التي تم التوصل إليها.

لقد تميزت ملكة العقل بالبعد الكوني عند التطبيق وباختلافها عن ملكة الخيال والحواس وبقدرتها على الأخذ بعين الاعتبار الظروف المتنوعة والعلاقات المجهولة ولكن لا يمكن اختزال العقل في الذكاء والذهن. فالذكاء هو انعطاف الدماغ نحو قياس المهارات والقدرة على الانتباه بينما الذهن هو حركة الإدراك وملكة الفهم عن طريق امتلاك طابع تفكيري يسمح له من معرفة ذاته والوعي بعملياته الخاصة أثناء المعرفة 8.

لقد أقرت الحداثة الفلسفية بأن مهمة ملكة العقل تكمن في التمييز بين الصواب والغلط وبين الخير والشر وجعلوا من سلطته معيارا في الممارسة يحوز على وظيفة تشريعية تنصب على توجيه الفعل في الحياة9.

إن العقل هو القدرة على تشكيل الأفكار العامة بالانطلاق من التجربة والأفكار العقدة بالانطلاق من الأفكار البسيطة 10 وعلى ترتيب الحقائق المطلقة التي يصلها وفق سلسلة من الروابط الضرورية دون نجدة الإيمان وجمعها في نسق منظم بإعطاء مبادئ التفسير لكل واقعة. إن العقل هو النسق المنطقي ذاته11. لقد تم التعامل مع العقل على أنه سلطة للإنسان للتحكم في شهواته وانفعالاته ومبدأ للسيادة على الذات وعلاوة على ذلك يمثل العقل مبدأ توجيهيا داخليا ينظم بواسطته المرء نفسه ويحدد ما يفعله أو يمتنع عنه,12

غير أن العقل تطور بعد ذلك ليصبح ملكة إيجاد المبادئ بشكل قبلية حيث تم التمييز بين العقل من حيث هو متعارض مع التجربة والعقل من حيث متمايز مع التجربة والحواس والخيال والتذكر. يوفر العقل في الحالة الأولى جملة من التصورات والمبادئ بشكل مستقل عن التجربة ولكن قابلة للتطبيق على المعرفة الموضوعية بالظواهر ويشكل منبع بعض التصورات والمبادئ التي تتجاوز إمكانية التجربة في الحالة الثانية ويتيح ذلك ظهور العقل المحض والتمييز بين المفاهيم المحضة للذهن وأفكار العقل13.

العقل المحض هو الملكة التأملية التي تشتغل بشكل مستقل عن الحواس ومن حيث هي واعية بصورة قبلية بالمبادئ اليقينية والأفكار المتعالية ضمن الكلية المشروطة وتكون قادرة على المعرفة التفكيرية بذاتها. كما يحتوي العقل المحض القاعدة لامتحان حدود استعماله الخاص ونقد الاعتقاد في المعرفة دون التجربة14. بينما يتضمن العقل العملي على قدرة تشريعية على الصعيد الأخلاقي ويشير إلى ملكة التحسين والتقبيح ويتمثل في تحديد الإرادة بالشكل المجرد الكلي للقاعدة العملية ويتحقق في الجمع بين الواجب والحرية.

أما العقل بالمعنى التاريخي فهو الروح الواعية بذاتها تتعرف على الواقع ذاته وتمثل الهوية المتعينة للشكل والمضمون من حيث هو القانون المحايث للطبيعة وللتاريخ ويشير الى التقدم البشري نحو نيل الحرية15. أما وجهة النظر الفنومينولوجية التي ظهرت بعد ذلك فتتعامل مع العقل كبنية كونية للذاتية المتعالية16. من جهة أخرى يتطابق العقل مع الفكر العلمي بوصفه النشاط الذهني الذي يشكل فعلية مستقلة ويتبع معيارا نسقيا ويشرف على تنظيم التجارب في مختلف تمفصلاتها مع النظرية وعلى طول مراحلها.

لم تم التعامل مع العقل في الحقل الابستيمولوجي على أنه سلطة مبادئ تقيم شكل من العلاقة مع مجال التطبيق. بعد ذلك أدى النضج المعرفي والثورة العلمية إلى اعتبار العقل قادر على تشييد المعايير وتطبيقها والتحقق منها ضمن نسق مغلق وثابت من الواقع ولكنه قادر على مواكبة المسار التاريخي ومعرفته17.

بناء على ذلك قام لالاند18 بالتفريق بين العقل المكوِّن الذي يمثل جملة من المبادئ التي يستخدمها من الأساس في حقبة معينة في الاستدلالات والعقل المكوَّن يكون قابل للصيرورة ويتغير بالتطور المعارف عبر الكشوفات التجريبية والاختراعات العلمية الجديدة التي تتراكم عبر التاريخ ضمن مسارات التطبيق.لكن إلى أي مدى بقي العقل يمثل المصدر المماثل في العمق للتراتبية الدائمة لقيم ومعايير الحقيقة؟ وما المقصود بعقل الدولة في المجال السياسي؟ وماهو العقل العملي في المجال الأخلاقي؟ وماذا نعنى بالعقلنة والعقلانية والمعقولية ؟ وما الفرق بين العقلانية الأولى والعقلانية الثانية؟ وماهي خصائص المعقول؟

من المعلوم أن العقلنة ratinalisation تفيد التمشي الذي يقطعه العقل عند تفضيله التجربة العلمية على حساب التجربة العامية بعراكه متواصل مع العوائق المترسبة والآراء الجاهزة وتخطيه جملة العتبات الابستيمولوجية وتطبيقه عدد من آليات الصناعة والتصرف والتنظيم في العمليات التقنية التي ظلت مجرد خبرات عشوائية واستعمال قواعد استنتاج بعد إخضاع العمليات المعرفية إلى امتحان منهجي للوضعية. كما تحرص العقلنة بهذا على منح الذات العارفة تفسيرا مقبولا عن دوافع تصرفاتها وبواعث ميولاتها وجاذبية مصالحها التي تظل بالنسبة إليها غير واعية وتمكنها من التخلص بصورة فعلية من كل تحيز19.

أما العقلانية فهي تدل على الطابع الذي يستند عليه العقل في محاولته التكيف مع الطبيعة وجهده المبذول في اتجاه إنتاج المعرفة العلمية على الصعيد النظري وتشريع القيمة المناسبة لتوجيه السلوك الإنساني20. على هذا الأساس يوجد علاقة قربة بين العقلاني والمنطقي وبين المعرفة المعقولة والضرورة المنطقية ويجب على العقلاني أن يكون متفقا بشكل تام مع قواعد الاستدلال وطريقة التفكير حتى يمتلك وسائل تقنية تكون قادرة على بلوغ نتائج يقينية وينبغي أن يتأسس المتعالي على مبادئ قبلية يتضمنها العقل المحض21.

في حين يصادر المذهب العقلاني على خلاف المذهب التجريبي بأن كل أمر يحوز على سبب وجوده في العقل وينتمي إلى سلسلة موضوعية من الحقائق الأبدية والضرورية التي تكون مستقلة عن الفكر البشري. بطبيعة الحال يرفض المذهب العقلاني أن تكون المعارف متأتية بصورة حصرية من معطيات التجربة ويقر بأن الإحاطة بالواقع يتطلب أوليات وقواعد بديهية يستمدها من ذاته ولا تأتيه من التجربة الحسية22. بهذا المعنى يعد العقل الملكة التنظيمية للتجربة عن طريق تصورات ومبادئ قبلية التي توفر الأطر الصورية لكل معرفة ممكنة بالظواهر وتحوز بذلك على قدرة تفسيرية للواقع الخارجي عن طريق التركيب الموجه بين المعايير والانطباعات ومن خلال تأليف منهجي بين المقولات والخبرات23.

في نهاية المطاف يمكن إطلاق مصطلح العقلانية النقدية على التواضع الذي يبديه العقل في دعاويه نحو امتلاك الحقيقة ومعرفة الواقع في ذاته كما يزعم الوثوقيون واكتفائه بمعرفة المظاهر وتاريخية المعرفة. إن الوثوقوية هي اللاعقلانية والريبية وثوقية مضادة لنفيها إمكانية المعرفة، أما المذهب العقلاني فيقبل الصيرورة والتغير ضمن معارفه ويثق بقدرة الإنسان على إنتاج معرفة موضوعية وبناء حكمة ملموسة. فماهي القيمة المضافة للعقل في المجال المعرفي وفي الحقول التطبيقية؟ وكيف تكون العقلانية في صيغة المفرد والمعقولية في صيغة الجمع أداة الشعوب في الانعتاق والتقدم؟

* كاتب فلسفي

...................................
الإحالات والهوامش:
[1] أنتوني جوتليب، حلم العقل، ترجمة محمد طلبة نصار، دار العلم والمعرفة، القاهرة، طبعة جديدة، 2018 ص121.
[2] Descartes René, discours de la méthode, GF, partie 2, p47.
[3] Leibniz G.W, Nouveaux essais sur l’entendement humain, GF, livre, IV, chap XI, paragraphe 13, p396 ; chap XVII, paragraphe03, p421-422.
Rousseau J.J, Émile, livre 4, G F, p.387.
Cournot A.A, Essai sur les fondements de la connaissance, cité in Textes choisis de Critique philosophique, édition PUF, pp55-57.
[4] Aristote, Organon, Seconds analytiques, édition Vrin, livre II, chap2, 90a 6-19, p164-165.
Leibniz G.W, Essai de théodicée, édition GF, partie 3, paragraphe 307, p299.
[5] Marc Auréle, Pensées, in les Stoïciens, PL Gal, livre 1-2, p1179.
Montesquieu, De l’esprit des lois, édition GF, chap 1,, p123.
[6] Aristote, Ethique à Nicomaque , édition Vrin, livre VI, chap2, 1139a5, p275.
[7] Platon, la République, Pl Gal, livre VI, 511e, p1101.
Hobbes Tomas, Leviathan, Sirey, chap5, p37-38.
Pascal Benes, Pensées, Pl Gal, pensée110, p1221-1222.
Hume David, Enquête sur l’entendement humaine, GF, se, IV, partie 1, p87.
[8] Epictete , Entretiens, in les stoïciens, Pl Gal, livre1, paragraphe 4-6, p808.
Descartes René, discours de la méthode, GF, partie1, paragraphe33, partie4, p65, partie5, p79-80.
Spinoza B, Traité théologico-politique, GF, chapitre XV,p254.
[9] Descartes R, lettres à Elisabeth, lettre 4 aout 1645, GF, p113,lettre 1 septembre 1645, p126.
[10] De Condillac E, Traité des animaux, édition Vrin, partie 2, chapitre V, pp490-491.
Rousseau J.J, Emile, GF, livre2, p202.
[11] Leibniz G W, Essais de Théodicée, GF, Discours, paragraphes 50, 58, p84.
[12] Marc Aurele , Pensées, in les stoiciens, PL Gal, livre IV, 4, p1160.
Spinoza B, Ethique, GF, partie4, scolie de la proposition XVIII,p236-237.
Kant E, Fondements de la Métaphysique des mœurs, édition Delagrave, section2, p114,120.
[13] Kant E, Critique de la raison pure, Édition PUF, dialectique transcendantale, introduction, II, pp. 254-256-258.
Kant E, Fondements de la Métaphysique des mœurs, édition Delagrave, section3, p190-191.
[14] Kant E, Critique de la raison pure, Édition PUF, dialectique transcendantale, introduction, II, pp.13-14.
Kant E, Prolégomènes à toute métaphysique future, édition Vrin, introduction, p17.
Kant E, Critique de la faculté de juger, édition Vrin, paragraphe 76, p218.
Kant E, Critique de la raison pratique , édition PUF, introduction, pp13-14.
[15] Hegel F, principes de la philosophie du droit, édition Vrin, préface, p57-58.
Hegel F, Science de la logique, AM, tomme1, livre1, introduction, p17.
Hegel F, phénoménologie de l’esprit, édition Aubier, tomme1, p196, tomme2,p09.
Hegel F, leçons sur la philosophie de l’histoire, édition Vrin, introduction, p22.
[16] Husserl E, Méditations cartésiennes, édition Vrin, méditation 3, paragraphe 23, p48.
[17] Bachelard G, la philosophie du non, édition PUF, chapitre1, p33, chapitre144.
Bachelard G, la formation de l’esprit scientifique, édition Vrin, chapitre, p17.
[18] Lalande A, la raison et les normes, édition Hachette, chapitre1, pp16-17.
[19] Hegel F, principes de la philosophie du droit, édition Vrin, préface, pp54-56.
Hegel F, phénoménologie de l’esprit, édition Aubier, tomme1, p49.
[20] Cournot A A, Essai sur les fondements de la connaissance, in textes choisis de Critique philosophique, Edition PUF, p30.
[21] Kant E, Critique de la raison pure, édition PUF, Dialectique transcendantale, livre1, section2, pp267-271.
[22] Descartes R, Principes de la philosophie, in Œuvres philosophiques III, Ga, pp775-776.
[23] Kant E, Critique de la raison pure, édition PUF, préface de la 2 édition, p17.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق