إذا كانت عملية التغيير قد حصلت في بلدان وسط أوروبا الشرقية أواخر الثمانينات من القرن الماضي، فإنها سلكت طريقين أساسيين لما نطلق عليه اسم العدالة الانتقالية التي تعني الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم أو من حالة حرب أهلية إلى حالة السلم أو من نظام دكتاتوري...
إذا كانت عملية التغيير قد حصلت في بلدان وسط أوروبا الشرقية أواخر الثمانينات من القرن الماضي، فإنها سلكت طريقين أساسيين لما نطلق عليه اسم العدالة الانتقالية التي تعني الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم أو من حالة حرب أهلية إلى حالة السلم أو من نظام دكتاتوري أو استبدادي إلى التوجه الديمقراطي، أو من حكم محافظ ومنغلق بانسداد الآفاق إلى حكم منفتح ويقرّ بالتعددية والتنوّع وقد اختار طريق الانتقال الديمقراطي وآلياته وهكذا.
الطريق الأول – إجرائي وذلك حين بدأت الأسئلة تتزاحم: حول مشروع التغيير والهوّية الجديدة، أي وفق أي المعايير التشريعية يمكن تأمين نموذج برغماتي (عملي) للمفاهيم المطروحة مثل: الديمقراطية والتعددية، واقتصاد السوق، والتعامل مع إرث الماضي . وبالمقابل فإن التشريع بقدر انطلاقه من الواقع فينبغي أن يتضمن القيم السياسية الرفيعة المتأصلة في الوجدان الإنساني مثل الكرامة والحرية وعدم التعرّض للتعذيب والاعتراف بالحقوق الإنسانية، لكي تكون أساساً في عملية تشكيل الإطار الدستوري الجديد والأنظمة التي تقوم عليه .
أما الطريق الثاني – معياري، ويتعلق بالبحث في تشكيل الهوّية الجديدة للمجتمع السياسي يكون نقيضاً للمجتمع السابق الذي انهار أو تراجع . ولهذا فإن كلا الاستراتيجيتين تقومان على قيمتين مثاليتين، لكنهما مترابطتان واقعياً بشكل متكامل ووثي .
وبحكم التغيير في التوجّه الاقتصادي، خصوصاً بالانتقال من الملكية الاشتراكية (الاجتماعية) إلى مشاريع الخصخصة واقتصاد السوق، كان لا بدّ من توفّر معايير قانونية جديدة وأنظمة محددة تتيح الحرية الاقتصادية وتقلل من تدخّل الدولة وترفع الحواجز النفسية وغير ذلك، ليقوم عليها الاقتصاد الجديد الذي سينتقل من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الليبرالي . وهكذا فقد كان الأمر يحتاج إلى المواءمة بين الاقتصاد والقانون، سواءً إزاء إجراءات الماضي بما فيها التأميمات وإعادة الممتلكات إلى أصحابها أو إزاء شكل النظام الاقتصادي الجديد، والإجراء الأول له علاقة بالتعويض، ناهيكم عن تصفية الحساب مع المرتكبين وإقامة نظام عدالة جديد، وكل ذلك احتاج إلى عملية انتقالية استمرت في بعض البلدان نحو من عشر سنوات أو أكثر، لكنها سارت باتجاه سالك على الرغم من العقبات والتحدّيات وحتى بعض الاخفاقات التي واجهتها.
والأمر له علاقة أيضاً بالعدالة العقابية، لاسيما وقد كانت هناك مطالبات للمساءلة من خلال “الأرشفة وتسجيل جميع ظواهر الظلم وعدم العدالة (اللاعدالة) المرتكبة من قبل النظام السياسي السابق”، وكشفها أمام الواقع الشعبي المشكّل حديثاً وتنظيمها في أشكال تستفيد منها الأجيال القادمة . ولعل نظام العدالة الانتقالية كان مطروحاً على حركات التغيير في أوروبا الشرقية، انطلاقاً من تجارب مهمة في أمريكا اللاتينية، لاسيما الأرجنتين وتشيلي وغيرها، إضافة إلى ترافقه مع تجربة جنوب إفريقيا . وقد وصلت التجارب حول العدالة الانتقالية اليوم إلى نحو 40 تجربة كونية، وهي مطروحة أمام دول الربيع العربي، لاسيما في تونس ومصر وليبيا واليمن من من دون نسيان التجربة المغربية منذ أواخر التسعينات . وقد ناقشت ندوة اختصاصية لخبراء موضوع العدالة الانتقالية مؤخراً في تونس بدعوة من الاتحاد الوطني الحر ومركز الدراسات الوطنية في تونس للاطلاع على التجارب العالمية ومنها تجارب أوروبا الشرقية .
إن تجربة أوروبا الشرقية عكست اتجاهين متعارضين: أحدهما يميل إلى طي صفحة الماضي بعد تطبيق إجراءات العدالة العقابية على عدد محدود من القيادات المسؤولة عن الارتكابات، بالترافق مع كشف الحقيقة والسعي لإحقاق العدالة وتعويض الضحايا وجبر الضرر، والتركيز على إصلاح الأنظمة القانونية وإلغاء كل ما من شأنه إعادة عهد الدكتاتورية والاستبداد . أما الاتجاه الثاني فقد كان يميل إلى اعتماد الانتقام وتصفية الحسابات الانتقامية مع الماضي بما فيه استخدام وسائل غير قانونية . ولعل المثال على ذلك اتخاذ برلمان ألمانيا الاتحادية قراراً بتأسيس لجنة تحقيق، وأوكل لها مهمة تقييم فترة أربعين عاماً من وجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وقامت اللجنة بعمليات استجواب عامة وسرية، وعقدت حلقات نقاش حول تاريخ ألمانيا الديمقراطية واستمر نشاطها من العام 1992 ولغاية العام 1995 حيث تم استجواب أكثر من 26000 الف شخص وصلت ملفات أكثر من 500 منها إلى القضاء وصدرت بحق بعضها أحكاماً قضائية.
وبالطبع فإن أية عملية تدقيق للماضي ستؤدي إما إلى المواجهة معه ومع نتائجه، أو تشكيل رأي عام لتجاوزه باتجاه مستقبل جديد وذلك باستخدام العدالة الانتقالية استناداً إلى معايير العدالة الجنائية (العقابية)، خصوصاً بإيجاد شكل متوازن بين الارتكابات الماضية وبين طريقة العقاب عليها بشكل عادل، أي محاولة التقريب بين الماضي والمستقبل.
وإذا كانت تجربة جنوب إفريقيا أو حتى العديد من دول أمريكا اللاتينية قد وضعت اتفاقية سياسية بما يشبه الإجماع بين الأحزاب والقوى الرئيسية تقضي بعدم ملاحقة المرتكبين السابقين بما يحقق المصالحة والتسامح، فإن تجربة أوروبا الشرقية طبقت سياسة جزائية وإن كانت محدودة إزاء الجرائم السياسية، لكن هذه السياسة، لاسيما بتدقيق العديد من الحالات الفردية، بدت معقدة وأحياناً غير ممكنة تقنيّاً، لاسيما وقد أبدى بعض القضاة وممثلي الدولة عدم رغبتهم بملاحقة جرائم الماضي.
ولعل تجربة بولونيا وهنغاريا تختلف عن تجربة ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا، فالتجربتان البولونية والهنغارية مرّتا بسلسلة متدرجة من التغييرات السياسية والدستورية “الانتقالية” (بين السلطة السابقة والمعارضة) لاسيما من خلال مناقشات وحوارات العام 1988 و،1989 في حين أن الثقة كانت معدومة بين السلطة والمعارضة في التجربتين الألمانية الديمقراطية والتشيكوسلوفاكية وشهدت تغييرات دراماتيكية راديكالية، لم يكن فيها مكان للثقة بين السلطة السابقة ومركز التغيير، الأمر الذي جعل الاستمرارية القانونية غير ممكنة، كما دفع التشريعات الجديدة للبحث في الأثر الرجعي للقوانين العقابية، لتحقيق العدالة، ولعل التبرير المقدّم على هذا الصعيد يتعلق بإعادة الثقة السياسية والديناميكية الدافعة لعملية التحوّل، وإن كانت المرحلة التشيكية الأخيرة قد اقتربت من الواقعية السياسية، لاسيما بعد رضوخ النظام القديم واستعداده لتقديم تنازلات جوهرية لصالح المعارضة.
وهكذا كانت بولونيا وهنغاريا مع الاستمرارية القانونية وعدم الملاحقة ومنع التشريع ذي الأثر الرجعي، في حين كانت ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا مع التغيير الثوري الراديكالي، من النظام الشيوعي إلى النظام الديمقراطي الليبرالي، ولكلا الفريقين تبريراته بشأن العدل المنشود، وقد حاولنا في كتابنا “الشعب يريد . . تأملات فكرية في الربيع العربي” الوقوف على الحكم الدستوري والأثر الرجعي في تجارب أوروبا الشرقية، ويمكن الإشارة هنا إلى أن تشيكوسلوفاكيا التي اختارت الطريق الثوري للتغيير، مقتفية الطريق الألماني عبر الجماهير المحتشدة في الساحات والشوارع واضطرار الحكومة إلى التراجع، عادت واستفادت من التجربتين البولونية والهنغارية، بعقد الطاولة المستديرة والتفاوض مع السلطة وإجبارها على التنحي التدريجي وإحراز النجاح تلو النجاح وهي تجارب يمكن أن توضع نصب العين لا بهدف الاستنساخ أو التقليد الأعمى أو الاستعارة، بل للإفادة من إيجابياتها وسلبياتها وبما يتناسب مع خصوصية كل بلد وكل تجربة تبعاً للتطور السياسي والاجتماعي للشعوب والأمم .
أعتقد أن لكل تجربة طريقها الخاص غير المسبوق وبلا أدنى شك فإنها من خلال تطبيق المبادئ العامة للعدالة الانتقالية تقدّم تجارب متميّزة يمكن الاطلاع عليها ودراستها والاستفادة منها وستكون تراكماً للتجربة الكونية المتميّزة والمتعددة وهو ما ستضيفه التجارب العربية.
اضف تعليق