القوى والأحزاب السياسية العراقية تمتلك مفاتيح الاستقرار السياسي، وهي قادرة على معالجة الأخطاء البنيوية للنظام السياسي العراقي، في حال تمسكت برؤيتها الوطنية بعيداً عن الانتماء الإيديولوجي والتدخلات الخارجية. فهل تتمكن من إرساء دعائم الاستقرار السياسي أم ستحافظ على سلوكياتها الماضية وتتسبب في الإطاحة بالنظام السياسي...
يعد الاستقرار السياسي من أهم المفاهيم الحديثة والمعاصرة التي سيطرت على العقل السياسي الإنساني منذ فترة بعيدة، إذ يعد ركيزة أساسية في استقرار المجتمعات البشرية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والأمني، فبدون الاستقرار السياسي لا يمكن للشعوب والدول أن تنهض.
وتكمن أهميته لكونه يعد مطلباً اجتماعياً في كل زمانٍ ومكان، ونظراً لدوره التنموي في تطور المجتمعات، أصبح محور اهتمام الفكر السياسي بمراحله المختلفة، وقد التفت له الإغريق والرومان في فكرهم السياسي وأصبح محط اهتمام كبير في فسلفتهم السياسية والعسكرية والاجتماعية، وزاوجوه بفلسفة وفكرة بناء الدولة.
وبغض النظر عن التحديات التي يواجهها مفهوم الاستقرار السياسي من الناحية الإستدلالية له، إلا أنه يتحدد بمعيارين غير قابلين للشك وهما (الاستقرار والسياسة)، وهذان المفهومان يعبران عن النظام السياسي بشكل عام وطبيعته في الوقوف بوجه الانهيارات الفجائية والإنقلابات والتدخلات الخارجية، أي بمعنى آخر بأن الاستقرار السياسي هو صفة ملازمة للنظام السياسي ويرتبط به ارتباطاً مباشر، فلا يمكن الحديث عن الاستقرار السياسي في ظل غياب النظام السياسي.
انطلاقاً من هذه المقدمة البسيطة، سنحاول تسليط الضوء على أبرز معوقات الاستقرار في العراق بعد عام 2003.
منذ الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003، والدولة العراقية تعاني من أزمات وإنهيارات متتالية، وغياب مستمر لحالة الاستقرار السياسي، مما انعكس سلباً على الاستقرار الاقتصادي والأمني والمجتمعي، وقد تراوحت أسباب عدم الاستقرار في العراق، فهناك من يعتقد بأن الاحتلال الأمريكي في سنواته الأولى كان السبب المباشر في حالة عدم الاستقرار السياسي، ويعتقد البعض الآخر بأن الإرادة الخارجية وتدخل دول الجوار هما السببان المباشران في حالة عدم الاستقرار المستمر الذي يعاني منه النظام السياسي العراقي.
فالتجربة الديمقراطية التي زرعتها الولايات المتحدة في المنطقة، تجربة فتية ومن الطبيعي ستواجه بمقاومة عنيفة، لاسيما وأنها زرعت بين نظامين إسلاميين متشددين، احدهما نظام إسلامي سني – سلفي، يعتمد العقيدة الوهابية في المزاوجة بين السلوك السياسي والعمل التشريعي، والآخر نظام إسلامي شيعي متشدد يتبع المذهب الجعفري للمزاوجة بين سلوكه السياسي والتشريعي من خلال تبنيه لولاية الفقيه. وبالتالي فإن استقرار الدولة العراقية يعني استقرار لنظامها السياسي وتجربتها الديمقراطية في المنطقة، وهذا ما لا يرتضيانه النظامين أعلاه.
وهناك من يعتقد بأن النظام السياسي الذي شكلته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق غير مناسب للمجتمع العراقي، ويحمل خلل كبير في بنيته السياسية، وأن حالة عدم الاستقرار التي رافقت العملية السياسية العراقية تكمن في البنية السياسية والدستورية لهذا النظام، لاسيما وأن الاستقرار السياسي هو نتيجة أو محصلة أداء النظام السياسي عندما يعمل بكفاءة وفعالية في مجالات التنمية السياسية والاقتصادية والشرعية السياسية والفعالية، وقدرة مؤسساته السياسية على مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية.
ربما تكون كل الاعتقادات التي تفسر أسباب عدم الاستقرار السياسي في العراق صحيحة، إلا أن السبب الرئيس والمباشر يكمن في إرادة الأحزاب والقوى السياسية العراقية، فقد كانت الفيصل في كل ما حدث والقاسم المشترك بين كل عوامل عدم الاستقرار التي تعاني منها الدولة العراقية على كافة المستويات.
بالتأكيد تمثل الأحزاب والقوى السياسية العراقية بمختلف مسمياتها الركيزة الأساسية في النظام السياسي العراقي الجديد، وبقدر اعتماد النظام السياسي عليها، إلا أنها كانت اللاعب الرئيس في حالة عدم الاستقرار السياسي، لاسيما وأن أغلب مسببات عدم الاستقرار قد تلاشت تدريجياً، كتلك المتعلقة بوجود الأمريكان وسيطرتهم على القرار السياسي العراقي أو غيرها.
فمع إنتهاء الحرب ضد تنظيم داعش واستعادة المؤسسة العسكرية هيبتها الإقليمية والدولية، بدأ الحديث عن مرحلة سياسية جديدة من أجل إرساء عملية الاستقرار في النظام السياسي العراقي، وبدأ الكل يتحدث عن النضوج السياسي للقوى السياسية العراقية، إلا أن انتخابات 12 آيار الماضي وما رافقها من سلوكيات سواء كانت على مستوى التشكيك بنزاهة الانتخابات أو من خلال عملية تشكيل الحكومة العراقية الحالية وما تضمنتها من اتفاقيات سياسية بين القوى السياسية العراقية، يكشف لنا بأن تلك القوى وأحزابها السياسية أصبحت اللاعب الأساس وربما الوحيد في إرساء دعائم الاستقرار السياسي.
فبغض النظر عن طبيعتها الحزبية ومتبنياتها الإيديولوجية والسياسية، إلا أنها قادرة على تشذيب العملية السياسية العراقية ومعالجة الأخطاء البنيوية أو الرئيسة التي رافقت عملية بناء الدولة العراقية، في حال ترافعت عن سلوكياتها الماضية واستطاعت أن تفصل بين متبنياتها الإيديولوجية وسلوكها السياسي الداخلي، وتمكنت من استعادة الثقة المفقودة بينها وبين شعبها على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ وبذلك قد تكون أرست عملية الاستقرار السياسي بعيداً عن الإرادة الخارجية.
فالاستقرار السياسي هو غاية لا يمكن أن تتحقق إلا بتكاثف جهود النظام السياسي وأفراد المجتمع على حد سواء، فعندما يحظى النظام بقبول شعبي نتيجة لسياساته المشجعة التي تتضمن نتائج ملموسة، فإن المواطن يعتبر هذا النظام يمثله، وينتج عن ذلك محافظة المواطنين على مؤسسات الدولة وستكون هناك ثقة متبادلة بين النظام بـ(مؤسساته وأحزابه) والشعب.
بعكس ذلك، قد يكون الإنهيار مصير حتمي للنظام السياسي؛ لأن استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي سيترتب عليها عدم استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي، وستكون المؤسسة العسكرية عرضة للتدخلات السياسية (الداخلية والخارجية)، وقد تكون المظاهرات والاحتجاجات صفة ملازمة لها، الأمر الذي يهدد استمرار النظام السياسي القائم أو يقوض من فاعليته السياسية.
ولعل عملية تشكيل الكابينة الوزارية لحكومة عادل عبد المهدي أعطت دليلا واضحا وصريحا على أن القوى والأحزاب السياسية هي اللاعب الأساس في عملية إرساء دعائم الاستقرار السياسي من عدمها.
ونتيجة لما سبق ربما نبرهن على فرضية المقال من خلال التأكيد على أن القوى والأحزاب السياسية العراقية تمتلك مفاتيح الاستقرار السياسي، وهي قادرة على معالجة الأخطاء البنيوية للنظام السياسي العراقي، في حال تمسكت برؤيتها الوطنية بعيداً عن الانتماء الإيديولوجي والتدخلات الخارجية. فهل تتمكن من إرساء دعائم الاستقرار السياسي أم ستحافظ على سلوكياتها الماضية وتتسبب في الإطاحة بالنظام السياسي العراقي؟
اضف تعليق