تجديد الفهم الديني الى مستوى الاستجابة للحاجات الجديدة والواقع الضاغط وتحدياته؛ يعد مطلباً أساسياً يقع على عاتق أصحاب الاختصاص في الحوزات العلمية والحركات الاسلامية؛ ليكون الفهم الديني الجديد علمياً ورصيناً وإقناعياً، وجاذباً للنخب والجمهور. وإلّا فإن حالة الانفلات في شقيها: المتباعد عن الدين، والمبتدع فيه...
في ظل مايشهده الواقع من انفتاح عشوائي على ألوان الفكر والثقافات، وحرية منفلتة في التعبير عن الرأي؛ تصل الى مستوى التجاهر بالدعوة الى الإلحاد في مجتمع مسلم محافظ من جهة، أو الدعوة الى التطرف الديني والطائفي والخرافة في مجتمع معتدل وتعددي من جهة أخرى؛ فان تجديد الفهم الديني الى مستوى الاستجابة للحاجات الجديدة والواقع الضاغط وتحدياته؛ يعد مطلباً أساسياً يقع على عاتق أصحاب الاختصاص في الحوزات العلمية والحركات الاسلامية؛ ليكون الفهم الديني الجديد علمياً ورصيناً وإقناعياً، وجاذباً للنخب والجمهور. وإلّا فإن حالة الانفلات في شقيها: المتباعد عن الدين، والمبتدع فيه؛ يشكل خطراً على النسيج الإيماني الاجتماعي والوحدة المجتمعية. ولن يكون الشد العاطفي ضامناً وقادراً على الصمود الى الأبد في تأمين الواقع الايماني.
ومنذ بداية احتكاك المسلمين بأفكار عصر النهضة الأوربية، وماتلاها من صيرورات معرفية وفكرية وسياسية واجتماعية وقانونية في الغرب؛ رافقت مرحلة غزوه العسكري المباشر لبلاد المسلمين، وانفعال المسلمين غير متوازن بالنتاج الغربي؛ رفضاً أو قبولاً؛ فضلاً عن تأثر أوساط كبيرة من المسلمين بالفكر الماركسي؛ فقد ظهرت مناهج خاطئة في الفهم الديني عموماً، وفهم الإسلام خصوصاً. وهذه المناهج حاضرة اليوم بقوة في المشهد المعرفي والثقافي، وأبرزها:
1- تفكيك الاسلام وتجزئته:
الاسلام منظومة متكاملة لاتتجزأ: غيبية، روحية، عبادية، فلسفية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، اقتصادية. هذا ما أراده من أنزل الدين وشرّع الإسلام، وليس للبشر دخل في هذه الإرادة، أو في صنع شمولية الإسلام وتماسك أجزائه، أو استيعابه لجميع مجالات الحياة. ولذلك؛ لايمكن للإنسان تفصيل الإسلام على مقاساته، وأخذ مايحلو له من الإسلام والتنكر للباقي، أو الإعتراف بجزء وعدم الإعتراف بالأجزاء الأخرى، ونأخذ جانباً من الإسلام فقط ونقول هذا هو الاسلام. فنقتطع ـ مثلاً ـ جانب العدالة الاجتماعية فيصبح الدين اشتراكياً، أو نأخذ جانب رفض الظلم ومواجهة الطغيان فيصبح الدين ثورة يسارية، أو نأخذ الجانب الروحي فيصبح الإسلام تصوفاً وعرفاناً وفلسفةً وحكمةً، أو نستل الجانب العبادي فيصبح الاسلام مجرد طقوس وشعائر وارتباط شخصي بين المخلوق وخالقه، أو نحصر الإسلام في الجانب السياسي فيصبح مجرد سلطة وحكم، أو نكتفي بالجانب الأخلاقي فيصبح الإسلام ضوابط لحسن التعامل بين البشر، أو نأخذ الشورى والمشورة واحترام الرأي الآخر فقط فيكون الإسلام هو الديمقراطية، أو نقول أن الإسلام هو عقود وايقاعات وحسب؛ فيصبح الإسلام مجرد قوانين أحوال شخصية. والمفارقة أن هناك من يقبل جزء من العبادات في الإسلام؛ كالصلاة والصوم ـ مثلا ـ ولايقبل بالحج والزكاة؛ لأنهما شعيرتان لاتتلاءم مع مزاجه.
هذه الأجزاء كلها موجودة في الإسلام: العدالة الإجتماعية.. العلاقة الروحية بالله.. رفض الظلم.. العبادات والشعائر والطقوس.. المعاملات والعقود والإيقاعات.. القوة والسلطة والدولة.. الشورى والحقوق والحريات.. الأخلاق.. الإنسانية.. الرحمة. كل هذه مكونات الإسلام وعناصر تكوينه، ولكنها مترابطة ترابطاً عضوياً ولاتتجزأ، وإلغاء أي جزء سيؤدي الى خلل في المنظومة. أي؛ أن الإسلام وحدة واحدة تكمل مكوناته بعضها الآخر.. كجسم الانسان بالضبط: الشبكة العصبية.. الدورة الدموية.. الجهاز الهضمي.. الجهاز التنفسي.. العظام.. العضلات.. القلب.. الدماغ.. وقبلها الروح المحركة لها جميعا. فلكل عضو وظيفة، وأي خلل أو عطل في أي عضو أو الغاء لوظيفته سيؤدي الى خلل شامل في جسم الإنسان.
وكمال خلقة الإنسان هي انعكاس لكمال الدين؛ لأن خالقهما كامل، ولايصدر عن الكامل إلّا الكامل؛ لأن النقص يستحيل على الخالق، ويستحيل على خلقه؛ أي أن الله عندما أنزل شريعته؛ لايمكن ان يتركها عرجاء أو عمياء، أو ينقصها جانب من جوانب الحياة، ولاتستوعب كل شؤون وحاجات الإنسان ومنظومة عيشه.
لذلك؛ فإن مقولات مثل: الإسلام فقط أخلاق.. الإسلام ثورة.. الإسلام صلاة وصوم.. الإسلام سلطة.. أنسنة الدين.. الإسلام العربي.. الإسلام الأوروبي؛ هي مقولات متهافتة وغير صحيحة. وبهذا الخصوص يقول الذي أنزل الدين وشرّع قوانين الإسلام: ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب)). فهذا النزوع نحو تفكيك الإسلام وتجزئة شريعته ليس جديداً؛ بل منهج قديم. وكانت هناك مقترحات على النبي (ص) من زعماء قريش أو بعض الملوك لتجزئة الدين وإلغاء أجزاء منه؛ كشرط لقبوله والدخول فيه.
2- الفهم غير التخصصي للدين:
لايمكن فهم الدين وفق ذوق الإنسان ومزاجه وميوله ونمط حياته؛ بل ينبغي فهم مقاصده وأهدافه وتفاصيله من خلال صاحب الدين وشارعه ومنزِّله. ففهم الإسلام محصورٌ بقصد الله تعالى وليس قصد الإنسان، والمعيار النهائي في فهم قصد الشارع هو فهم النبي (ص) وبعده الإمام (ع). وفي عصر غياب المفسر الأصلي للدين؛ يحكم النص الديني وكذا العقل بأن يكون فهم الدين مهمة المتخصص حصراً. وتزداد أهمية التخصص كلما ابتعدنا عن عصر النص. ولا يمكن الإستهانة بعلوم فهم الدين الى مستوى أن يقوم أي شخص؛ أيا كان عمله وتخصصه المعرفي ومستواه التعليمي، بتفسير القرآن، ومعرفة الصحيح من السنة الشريفة، ويلغي وينفي ويثبت ويغير الأحكام، ويجتهد، ويقدم نظريات اسلامية. وهو مالا يقبله النص ولا العقل.
نعم هناك قراءات وتفسيرات وأفهام بشرية، وهو حق كفله الله للانسان؛ ليجتهد ويؤول ويفسر، ولكن الفهم البشري ينبغي أن لايخرج عن منهج الغيب ومقصد الدين وفلسفته الإلهية، وإتقان اللغة نحواً وصرفاً وبلاغة وبياناً وفقهاً، ومعرفة الناسخ والمنسوخ في آيات الأحكام وأسباب النزول، ودراية الحديث ووثاقة الرواة، والقواعد الفقهية، وامتلاك أدوات الإجتهاد لمعرفة رأي الشريعة في الموضوعات الجديدة. وهذا كله عمل تخصصي عميق.
واحترام التخصص هو الخطاب الثابت لكل عقلاء البشر. فالمتخصص في جراحة الدماغ ـ مثلاً ـ هو صاحب الرأي الأول والأخير في الفحص والتشخيص والعلاج الخاص بأمراض الدماغ؛ فلا يمكن أن يكون لمهندس البناء رأي في جراحة الدماغ. بل لو ذهب مريض في الدماغ الى طبيب اختصاص في جراحة القلب؛ فسيقول؛ ليس اختصاصي جراحة الدماغ. بل هناك اختصاصات دقيقة منوعة في جراحة الدماغ.
أما في مجال علوم فهم الدين؛ فإن الصحفي والسياسي والوزير والمهندس والعامل والفلاح والضابط والشاعر والفيلسوف والفيزياوي وعالم الإجتماع وخبير القانون؛ لايتردد في تقديم فهم للدين ومعارفه وأحكام الشريعة؛ فيقول الصحفي: لايوجد في الإسلام اقتصاد، ولايعتقد مهندس البناء أن أحكام الإرث تتوافق مع العصر، ويتراءى للسياسي أن هذا الحديث النبوي كذب، ويبدو لطبيب الأسنان أن الشريعة لا تقليد فيها، ويفتي الضابط بأن الإسلام لاعلاقة له بالسياسة. وهو مايعني أن كل التخصصات محترمة عدا التخصص في علوم فهم الدين؛ فهو تخصص مستباح ولاحرمة له؛ بل يرى كثير من غير المتخصصين أن الدين ليس بحاجة لتخصص، ويمكن لكل إنسان أن يكون له فهمه للدين ومتطلباته ومستلزماته. فإذا توصل هذا الإنسان بأن الإسلام لايتعارض مع الإلحاد، أو أنه دين علماني، أو أن شرب الخمر ولعب القمار وممارسة الزنا ونزع حجاب المرأة ليست من المحرمات؛ فينبغي عدم إخراج فهمه عن دائرة الدين.
وهناك مناهج معرفية يستخدمها بعضهم في التوصل للحكم الشرعي، وهي تدخل في إطار المناهج غير التخصصية أيضاً، وأهمها:
أ- الإجتهاد في مقابل نص ديني ثابت، وهو خلط بين الثوابت والمتغيرات، ومخالفة للنصوص التعبدية. وهو جنوح نحو الانفلات في فهم متطلبات العصر، وفي تطبيق معادلات مدخلية الزمان والمكان في تغيير موضوع الحكم الشرعي.
ب- الجمود على فهم السلف للدين، وعلى اتباع سلوكهم وعدالتهم؛ فيكون لدينا إسلامات متعارضة بعدد الصحابة والسلف.
3- فهم الاسلام وفق مناهج غير دينية:
يقول بعض أصحاب الاختصاصات في العلوم الانسانية والاجتماعية؛ كالفلسفة الغربية أو علوم النفس والاجتماع والقانون واللغة والتاريخ: (( هذا فهمي للإسلام بناءً على اختصاصي العلمي والمعرفي)). ولكن؛ لايمكن فهم الدين بناءً على اختصاص علمي غير ديني، ولايمكن استخدام مناهج غير دينية لفهم الدين؛ كالهرمينوطيقيا (فلسفة التأويل)، الفينومينولوجيا، الانطولوجيا ( فلسفة الوجود)، الابستمولوجيا (فلسفة المعرفة)، البلوراليسم (التعددية). وإخضاع فهم الدين ونصوصه ومصادره وكينونته وبنيته الى هذه المناهج؛ سيؤدي تلقائياً الى نتائج تتعارض مع مقاصد الدين، والى رؤى غير دينية. بل يحاول بعضهم اعتماد نظريات في الفيزياء الكونية؛ كنظريات "ستيفن هوكينغ" مثلاً، أو الأخذ بنظريات "هوسلر" و"سارتر" و"ماركس" و"دارون"؛ لتقديم فهم للنشوء والتكوين والوجود والأبدية والازلية والمعرفة الدينية والتفسير والتأويل.
4- اسقاطات اللاهوت المسيحي وسلوك الكنيسة:
يعمد بعض الباحثين والمهتمين الى استخدام مناهج من اللاهوت المسيحي وماتتضمنه تعارضات داخلية من جهة، واسقاط تعاليم ومفاهيم الديانة المسيحية على الدين الإسلامي من جهة ثانية، وتطبيق معادلات الصراع بين الكنيسة والتنويريين وفلسفات عصر النهضة الأوروبية على المنظومة الدينية الإسلامية من جهة ثالثة. وهذا خطأ منهجي وعلمي كبير. فتجد كثيرين يعتمدون اللوثرية، وتحديداً منهج فلاسيوس في فهم الإسلام؛ لينتهوا الى أن المفكر الفلاني أو الشيخ الفلاني هو "مارتن لوثر الإسلام"، وينحتون ـ على أساس هذا المنهج ـ مصطلحات غريبة؛ كاللوثرية الإسلامية، أو الإسلام البروتستانتي أو التشيع الأرثذوكسي.
5- اسقاطات سلوكيات المنتسبين للاسلام:
يستند بعضهم الى نماذج الدول السلطانية وجرائمها وسلوكياتها، أو انحراف بعض المنتسبين للجماعات الدينية ليقول أن هذا هو الاسلام. وهذا خطأ منهجي أساس؛ لأن المعيار في تحديد معارف الدين وأحكامه ليس سلوك المنتسبين للإسلام وتفسيراتهم المصلحية ونظرياتهم المبتسرة التجزيئية التي يطبقوها وفقا لأهوائهم؛ لتحقيق مصالح سلطوية وسياسية واقتصادية واجتماعية؛ بل المعيار هو النص المقدس المتمثل بالقرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة.
نتائج الفهم اللاديني وغير التخصصي وغير المنضبط للاسلام
سينتج عن الفهم اللاديني وغير التخصصي وغير المنضبط للاسلام؛ إسلامات مزاجية ومنفلتة وشخصية بعدد المسلمين، وسيكون صدور الفتاوى المتعارضة مع النصوص الثابتة أمراً طبيعياً، وسيتم إنتاج إسلام سلوكي.. وإسلام روحي.. و إسلام داعشي.. و إسلام اشتراكي.. و إسلام ليبرالي.. و إسلام علماني.. وإسلام بدون علماء دين.. وإسلام مدني.. واسلام ارثذوكسي.. وإسلام بروتستانتي؛ وصولا الى الإسلام الإلحادي.
وكما أن بعض المناهج التحريفية ينتج عنها إسلام دموي سلطوي طاغوتي؛ فإن مناهج أخرى منفلتة ينتج عنها إسلام إلحادي..
اضف تعليق