التربية السيئة للفرد منذ الصغر والإهمال وعدم الرعاية بإمكانها أن تكون مصدرا للعدوان، وعلى المستوى المجتمعي العام فأن الأزمات طويلة الأمد كالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وما تسببه من معاناة جماعية وإحباط ممكن أن تؤدي في لحظات ما إلى العنف الشامل على خلفيتها المحاكاتية المتشابهة التي تؤدي إلى...
تمتد جذور العنف في التاريخ إلى نشأة البشرية الأولى، بل هي امتداد لنشأتها في المملكة الحيوانية التي سبقت نشوء الإنسان العاقل، ولعلنا لا نجافي الحقيقة عندما نقول إن تاريخ العنف لصيقا بتاريخ البشرية، فقد شكل محطات هامة وأساسية في انتقالها من حالة إلى أخرى، ومن تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى أخرى، أحيانا تقدمية وأحيانا أخرى تراجعية قياسا بسابقتها، ولا أدل على ذلك تلك هي الحروب الدينية والسياسية الاقتصادية التي مرت بها البشرية جمعاء وبدون استثناء ودفعت ثمنها ملايين من الضحايا، ولعل خير دليل في ذلك هو حروب القرون الوسطى في أوربا ذات الصبغة الدينية، والحروب العربية والعربية الإسلامية على مر تاريخها، مرورا في الكثير من الثورات العالمية في أوربا ذات الصبغة الدموية باختلاف نتائجها اللاحقة وما ترتب عليها، ثم في تاريخنا الحديث هناك حربين عالميتين، الأولى والثانية، والتي امتدت لتشمل بقاع عديدة من العالم، وكان ضحاياها عشرات الملايين من المتحاربين والأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، وما آلت إليه اليوم من تقسيم للعالم إلى ما نراه اليوم، ثم الحرب الباردة التي طالت لعقود من الزمن بين معسكرين أوروبيين مختلفين ” الشرقي والغربي “، وهو نمط خاص من العنف غير الصدام المسلح المباشر، ثم جاءت نتائجه بانهيار المنظومة الاشتراكية سابقا !!!!.
كما نشهد اليوم في منطقتنا العربية نمط من الحروب يجسد في صيرورته العنف والعنف المضاد بين الأطراف المتحاربة، والتي تدور رحاها داخل كل بلد على حدة، وبين الدولة الواحدة ومحيطها الإقليمي، كما نلاحظ نشأة نمط من العنف الداخلي، وهو العنف الطائفي والمذهبي والديني والاثني، ناهيك عن العنف ضد المرأة وهو النمط المتأصل في المجتمعات الذكورية. وقد اختلط العنف بالإيديولوجيات والأديان لينتج أنماط من العنف تستمد شرعيتها من الخطاب السياسي أو الديني للأطراف المتحاربة حتى تحول العنف إلى واجب مقدس، يتجسد في ابرز مظاهره في العنف الإرهابي الديني الذي يجد ضالته في تفسير النصوص المقدسة في تكفير الآخر، وكذلك في الخطاب السياسي الذي يستمد مشروعيته من أوهام البقاء للدفاع عن المصالح التاريخية للأمة كيف ما اتفق ومن وحي أفكار ودكتاتورية الحزب الواحد أو العائلة الوراثية المالكة أو من يدعي الخلافة في الأرض و المستميتة في الدفاع عن عوامل البقاء مهما كلفت التضحيات !!!!!.
أما على مستوى حياتنا الاجتماعية اليومية فأن العنف يدخل كمفردة تغطي نطاق واسع من السلوكيات المتنوعة المظاهر والتي تلحق الأذى بالآخر، ولم نجد فسحة في حياتنا خالية من مظهر من مظاهر العنف بأي شكل من الإشكال. فإذا أسلمنا بإحدى تعريفات العنف الكثيرة والواسعة جدا، والذي تؤكد ” بأن العنف هو سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة اقتصاديا وسياسيا مما يتسبب في إحداث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دول أخرى “، فهو يتسع ليشمل مظاهر وأنواع مختلفة، لعل أبرزها: العنف الأسري الذي يمارس باسم السلطة الذكورية ضد الزوجة والأبناء، أو من قبل الأبناء ضد الأخوات وألام ، وسلب حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وهو متأصل الجذور لأسباب تاريخية، مرجعها طبيعة تقسيم العمل تاريخيا وحصره في السلطة الذكورية، واعتبار الأنثى مجرد جزء من الممتلكات الشخصية لا غير؛ والعنف الجسدي والذي يستخدم ضد الآخرين باستخدام القوة الجسدية بهدف إلحاق الأذى بهم عبر مختلف الأساليب، كالتعذيب الجسدي، أو استخدام الأيدي والرفس والخنق وغيرها، وتسبب الأذى والأضرار الجسمية المختلفة وما ينشأ عنها من أوجاع وألام أو معاناة نفسية؛ والعنف النفسي الذي تجسده شتى مظاهر الإكراه من خلال القيام بعمل ما أو الامتناع عنه وفقا لمقاييس علمية أو مجتمعية بمعرفة الإضرار الناتجة عنه على المستوى السلوكي والمعرفي والإدراكي والانفعالي، كالتخويف، والاستغلال، والاهانة، وفرض الآراء بالإكراه، السياسية منها والاجتماعية والثقافية والشخصية، ويجري هذا النوع من العنف على أيدي أشخاص أو سلطات تمتلك القوة والسيطرة؛ ثم الاغتصاب والاستغلال الجنسي الذي يمارس بالقوة ” سواء من قبل الشريك الجنسي أو الغريب ” بحق النساء البالغات وكذلك الاستغلال الجنسي للأطفال بمختلف مظاهره وصوره الشنيعة؛ وكذلك العنف المدرسي الذي نلتمسه في الوسط الطلابي، حيث مظاهره المنتشرة بين الطلاب أنفسهم والاعتداء على بعضهم بعض، سواء بصيغه الفردية، أم بصيغه الجماعية والتي تأخذ أحيانا طابعا منظما وشلليا، والذي له انعكاساته الخطيرة على الجوانب الاجتماعية والانفعالية للطلبة مما يسهم بشكل كبير بزعزعة الأمن المدرسي وزرع الرعب بينهم وتلف الممتلكات المدرسية، وكذلك العنف بين المعلمين أنفسهم، وبين المعلمين والطلاب، ولعل استخدام الضرب والعقاب البدني والنفسي ابرز مظاهره، وأحيانا يكون محميا بقوة التشريع المدرسي التي تبيح ذلك !!!!!.
وتتناول الأدبيات المتخصصة بموضوع العنف الكثير من تصنيفاته وأنواعه، والتي تتداخل في غالبيتها مع أنواع العنف التي ذكرناها سلفا، ونكتفي بالإشارة إليها دون الخوض في تفاصيلها لسهولة فهمها اصطلاحيا ارتباطا بما ذكرناه سابقا، وهي على النحو الآتي: العنف المعنوي، العنف اللفظي أو الشفوي، العنف البدني، العنف الديني، العنف التلقائي، العنف المادي، العنف الفوضوي، العنف الجماعي، العنف الفردي، العنف الرسمي، العنف المجرم الغير الرسمي، العنف غير القانوني، العنف المشروع، العنف المتبادل، العنف ألانحرافي، العنف السياسي، العنف الاقتصادي، العنف اللاعقلاني، العنف العقلاني، العنف الانفعالي، والعنف المنشأ ” وهو نوع من العنف تلعب وسائل الاتصال دورا بارزا في إحداثه ” .
وقد تحدثت أدبيات الفكر السوسيولوجي والفلسفي تاريخيا عن العنف من حيث أشكاله، وكيف تولد العنف في التاريخ وما هي الأدوار التي لعبها، ومن أين اكتسب مشروعيته وهل هناك عنف مشروع أصلا. ومجمل هذه الأطروحات تنسجم مع الاتجاهات العامة التي وردت في المقال. ويمكن الإشارة إليها هنا باختصار شديد. فعلى مستوى أشكال العنف فقد تم تقسيمه إلى العنف البدني، والذي تحدث عنه ايف ميشو ( 1942 ) بأنه الضرر والألم المقصود الذي ينصب على جسم الكائن ويترك أثرا قابلا للملاحظة والتحقق منه، مثل الضرب والقتل والتعذيب والحرب والتجويع وغيرها، ويعتبر العنف من الظواهر التي ترتبط بتربية الأفراد وثقافتهم مثلما ترتبط بالمؤسسات المجتمعية والأنظمة السياسية. فكما هناك أفراد يمارسون العنف كذلك هناك أنظمة سياسية بوليسية تقيم المعتقلات والمعسكرات للتعذيب الممنهج. وقد ساعد التطور التقني المعاصر في تطوير وتيسير أساليب فعل العنف وجعلها أكثر فتكا، إلى جانب الاستخدام الواسع والمنظم لوسائل الإعلام التي تروج لمختلف مظاهر الإبادة والتعذيب والتخريب؛ والشكل الثاني من العنف هو العنف الرمزي كما يسميه المفكر الفرنسي بيير بورديو ( 1930 ـ 2002 ) وهو أكثر فاعلية، وهو ” عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية” كالكلام والتعليم والتربية والثقافة وأساليب التنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع، فيلحق الضرر بالغير بطريقة لا تثير انزعاجا، بل أن الذين يمارس عليهم هذا العنف قد لا يعتبرونه عنقا وقد يساهمون في إنتاجه وترويجه وكأنه حتمية وجودية، إذ يتلقى الناس أفكارا وأراء ومسلمات كأنها حقائق مطلقة وثابتة، ويقبلونها بكل تلقائية وتسليم. هذا النوع من التلقي يسميه بورديو ب ” الإقناع الصامت والسري ” الذي يفرض الهيمنة والسلطة !!!!.
أما بالنسبة لأسباب التي تنتج العنف في التاريخ فهناك عدد من النظريات التي فسرت ذلك، ولعل الماركسية أول من التفت لظاهرة العنف في التاريخ من منطلقات سوسيواقتصادية، حيث أكد كارل ماركس ( 1818 ـ 1883 ) أن العنف في التاريخ ناتج عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأساسي لعجلة التاريخ بمختلف مراحله، والذي يجسده الصراع بين طبقتين مختلفتين، هما الطبقة المستغلة والطبقة المستغلة، أو ما يعبر عنه بلغة الاقتصاد الماركسي التناقض التاريخي والمستمر بين قوى الإنتاج من جهة وعلاقات الإنتاج من أخرى، كما نراه مثلا في الرأسمالية وهو الصراع الحاصل بين البورجوازية مالكة وسائل الإنتاج وبين البروليتارية، ويولد هذا الصراع مختلف أشكال العنف والاستلاب والاستغلال الذي تمارسه الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج المادي على الطبقة العاملة. وقد يتخذ هذا الصراع طابعا فرديا لا يعيه الفرد ذاته، كما يتخذ صراع جماعات مختلفة ” نقابات، وإيديولوجيات وأحزاب سياسية “. أم التفسير الآخر للعنف فهو كما يراه المفكر الفرنسي ” روني جيرار ( 1923 ) ” بما يسمى ” الرغبة سبب العنف ” وهذا التفسير يرى أن الإنسان كائن راغب، توجه تفكيره وسلوكه مجموعة من الرغبات، وان إشباع هذه الرغبات يرتبط بموضوعات معينة وتكاد تكون موحدة بين البشر، مما يجعل الناس يتوجهون إلى نفس الموضوعات بطريقة يسميها محاكاتية، فيظهر بينهم التنافس والتدافع ويتحول الأمر إلى النزاع والصراع ثم إلى حرب مفتوحة تأتي على حرق الأخضر واليابس، ولا يتوقف العنف بين بني الإنسان إلى الأبد، نظرا لعد انقضاء الرغبة المرتبطة بالموضوع المتنازع عليه من جهة، ونظرا لظهور سيكولوجية الانتقام الجماعي المؤجل من الخصم من جهة ثانية. على خلاف ما يجري في وسط الحيوانات التي يخمد الصراع بين أفرادها بمجرد الغلبة وخضوع الأضعف للأقوى. ويؤكد جيران أن العنف الإنساني عنف مدمر، فهو ينتشر في الجماعة من فرد إلى فرد ويمكن أن يؤدي إلى قيام مذابح جماعية.
وبخصوص مشروعية العنف من عدمها، فهناك من يعطي مشروعية قانونية للممارسة العنف من زاوية الحق والقانون والعدالة، كما هو الحال عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ( 1864 ـ 1920 ) عندما يتحدث عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة، وعن حقها في احتكار هذا النوع من العنف، وكما يقول احد زعماء الحركة الشيوعية الروسية و العالمية تروتسكي ( 1879 ـ 1940 ) والذي يرى ” أن كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف “. فالدولة هي التجمع السياسي الذي يحتكر العنف المادي الذي تعطى له الشرعية القانونية، المتمثلة أساسا في المحافظة على النظام الداخلي من جهة، والدفاع عن المجتمع ضد الأخطار الخارجية من جهة أخرى. هكذا يرى فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، وان هذا الأخير هو الوسيلة المميزة لها، وان بينها وبينه علاقة وطيدة؛ ذلك أن ما يبقى في حالة اختفاء العنف من ممارسة الدولة هو الفوضى وضياع مصالح الناس. ولكن هناك أسئلة كثيرة تثار حول مشروعية ذلك من خلال شرعية الدولة نفسها ومن أين استمدت ذلك، وحول مشروعية قوانينها وهل هي مطابقة للحق والعدل فعلا. أما الموقف الآخر من العنف فهو الموقف الرافض للعنف ولا مشروعية له، بل يمثل الرذيلة والحقد، ويمثل هذا الاتجاه المهاتما غاندي ( 1869 ـ 1948 ) السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلال الهند، حيث يجسد الحب والإرادة الطيبة تجاه كل الناس، ولذلك فهو يرفض السلوك العنيف لأن ورائه نية من اجل إلحاق الأذى والألم بالآخر، وهكذا يدعو غاندي إلى تعميم الصداقة بيم كل الناس ومكافحة العنف والشر بسلاح الذهن والفكر الأخلاقي، وهو ما يقتضي مواجهة العنف بمقاومة
روحية تمكن من خلق خيبة أمل لدى الممارس بأن لا أواجهه بسلاحه من جهة، والتمكن من رفع مستواه الإنساني والأخلاقي بأن يصبح هو الآخر رافضا للعنف من جهة أخرى !!!.
وفي السيكولوجية والتربية حيث يجري البحث عن الجذور الفردية والعوامل المهيأة في نشأة العنف ومعرفة أسبابه الكامنة، وحيث أن الفرد عضو في الجماعة، فأن معرفة الجذور الذاتية للعنف يعني بالضرورة فهم العنف ومحركاته الأساسية على النطاق المجتمعي. وفي هذا المجال تنتظم العديد من النظريات لتفسير ماهية العنف سيكولوجيا وتربويا، ولعل أبرزها النظريات والآراء الآتية:
1 ـ النظرية البيولوجية ( الغريزية ) : ووفقا لهذه النظرية أن السلوك الإنساني يعكس الطبيعة الإنسانية، وبأن الدافع للسلوك تنبع من قوة غريزية تنطلق تلقائيا، وقد طور داروين هذا المفهوم واقتفى أثره الكثير، منهم فرويد ولورنز وغيرهما ممن رأوا بأن العدوان ينبع من دافع داخلي ويدفع صاحبه للتعدي على الغير مباشرة أو على الأشياء أو بصورة غير مباشرة في مختلف النشاطات كالرياضية والألعاب التنافسية وحتى الوصول إلى السلطة وغيرها من الوسائل التي تعبر عن وجود مثل هذه الطاقة الغريزية.
بالنسبة لفرويد ( 1856 ـ 1939 ) فقد أكد أن هناك غريزتين متناقضتين تفسر السلوك الإنساني، أولهما غريزة آيروس أو غريزة الحياة، ورأى بأن لهذه الغريزة طاقتها والتي أطلق عليها مصطلح اللبيدو، وبأن هذه الغريزة تتوجه نحو التكاثر والإبقاء على الحياة، والغريزة الأخرى هي غريزة ثاناتوس، أو غريزة الموت، ورأى أن هذه الغريزة لها طاقتها، وبان هذه الطاقة تتجه نحو الدمار وإنهاء الحياة، وتحقق هذه الغريزة الهدف الأقوى في النفس الإنسانية وهي الرجوع إلى حالة ما قبل الحياة، إلا أن هذه الغريزة إذا ما أحبطت فأن لطاقتها أن تتوجه نحو الغير بدلا من توجهها نحو الذات، وعلى الرغم من المخارج التنفسية لهذه الغريزة كحالات الغضب أو النشاطات التنافسية، إلا انه رأى أن هذه الحلول مؤقتة ولا تجدي نفعا، إلا بالعودة إلى ما قبل الحياة أي الموت، ورأى أن التعاون والتضاد بين هاتين الغريزتين هو الذي يحدث ظواهر الحياة والتي يضع الموت نهاية لها .
أما بالنسبة لكونراد لورنز ( 0319 ـ 1989 )، وهو متخصص في السلوك الحيواني، فهو يرى بان العدوان الإنساني ينبع بالأساس من غريزة النزال والتي يشاطر فيها غيره من الحيوانات. وقد أكد أن غريزة العدوان في الإنسان والحيوان تخدم غرضين أساسيين: الأول هو تحفز الصنف الحيواني على الانتشار والهجرة وذلك بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من مصادر المحيط، وهذا يتضح من مسالك العنف التي تبديها الحيوانات نحو بعض أفرادها ودفعها للهجرة من مناطقها التي تعيش فيها إلى مناطق أخرى، أما الوظيفة الثانية التي تخدمها غريزة العدوان فهي ضمان بقاء الأقوى والأصلح مما يضمن إقصاء الأضعف من البقاء ودوام الأقوى بالتكاثر. أما الجديد والمثير في نظريته هو أن طاقة العدوان قابلة للتجمع مع مرور الزمن إذا لم تصرف في حينها، وبان العنف والعدوان ينشا بصورة تلقائية ومتواصلة وبسرعة ثابتة، وبان إطلاق العدوان ينجم عن تفاعل عاملين أولهما مقدار الطاقة العدوانية المتجمعة، وثانيهما توفر العامل المطلق في المحيط وقوة هذا العامل. ورغم الانتقادات الموجه لهذه النظرية من حيث كون أساسياتها استخلصت من عالم الحيوان إلا إن بإمكان المرء أن يلتمس الكثير من مظاهرها في سياقات السلوك الإنساني.
2 ـ نظرية الدافع العدواني: افترض العلماء هنا وجود دافع للعدوان بدلا من غريزة للعدوان والفرق بينهما أن غريزة العدوان تفيد بوجود طاقة عدوانية تولد بصورة تلقائية، فان نظرية الدافع العدواني تفيد بأن العدوان ينشا من حافز أو دافع وبأن هذا الدافع يثار من حافز خارجي والذي يهدف إلى إيذاء أو إلحاق الضرر بالآخر. وبناء على هذه النظرية فان العدوان بصورة رئيسية هو نتيجة لتعرض الفرد لعامل محيطي معين والذي يثير حافزا للقيام بالعدوان. ومع تبني العلماء عامة لمثل هذه النظرية عن الدافع للعنف إلا أن موضوع ماهية هذا الدافع ومصدره مازال بدون تفسير أو قيد البحث، إلا انه لا توجد فرقا جذرية بين نظرية الغرائز وبين نظرية الدافع، سوى أن الدافع للعدوان في الحالة الأولى هو دافع داخلي وفي الحالة الثانية هو حافز خارجي. أما الطاقة المحركة للحالتين فهي واحدة ولا بد أن يكون أساسها في الطبيعة البيولوجية للفرد وهي الطبيعة التي توفر الطاقة العصبية الفسيولوجية اللازمة للقيام بعملية العنف سواء إن أثير هذا العنف من الداخل أو بفعل عامل أو موقف معين من المحيط الخارجي.
3 ـ النظرية التحليلية النفسية والعدوان: على الرغم من أن فرويد هو رائد المدرسة التحليلية النفسية إلا أن آرائه بصدد العدوان كانت بيولوجية أكثر منها نفسية، ثم أن موضوع العدوان جاء متأخرا لدى فرويد، مما فسح المجال لمن جاء من بعده التنظير والبحث في هذا الموضوع. ويتضح من أراء معظم التحليلين أنهم ينظرون إلى العنف والعدوان ليس مجرد دافع للدمار أو لعقاب الذات وإنما كطاقة عقلية عامة ذات مشتقات عديدة وبأنه يلعب دورا هاما في الصراعات العقلية وبدرجة تماثل الدافع الجنسي، وبأن لهذا الدافع أن يؤدي إذا ما اعترض أو أحبط إلى قيام حالات مرضية نفسية عصابية أو إلى انحراف في خصائص الشخصية حاله في ذلك حال الدافع الجنسي وما يثيره هذا الدافع من صراعات واضطرابات نفسية وسلوكية. ويؤكد علماء هذا الاتجاه السيكولوجي انه في الوقت الذي يتوفر فيه الدليل القوي على أن هناك اتجاها واضحا نحو التدمير في الدافع العدواني إلا أن هناك اتجاها آخر في العدوان والذي هو غير تدميري، وفي رأي بعض من المحدثين من مدرسة التحليل النفسي بان طاقة اللبيدو ( الطاقة الجنسية ) بإمكانها الاندماج مع الطاقة العدوانية مما يوفر طاقة إضافية للأنا ( الذات )، كما أن الأنا أو الذات نفسها تقوم بفعل تحييد الدافع ألتدميري وهو ما يزيد من مخزونها من الطاقة النفسية وهي الطاقة التي أصبحت ألان مجردة من الغريزة، وهكذا فأن التخفيف من الدوافع التدميرية الغريزية الكامنة يصبح ممكنا بفعل دمجها بالدافع الجنسي وبفعل ما تقوم به الأنا من تحييد لهذا الدافع ألتدميري.
4 ـ نظرية العنف كسلوك اجتماعي متعلم ومكتسب: طبقا لهذه النظرية فان السلوك العدواني والعنف هو سلوك مكتسب أثناء الحياة الاجتماعية وبأنه يتعزز ويتواصل بفعل هذه العوامل، وأن الفرد يتعلم هذا السلوك وينوع ويطور أساليبه طبقا لقواعد التعلم والتي تعتمد على عناصر التعرض والتكرار والربط والإسناد بالمكافأة. ومع أن هذا المنظور الاجتماعي ألتعلمي للعنف والعدوان لا يمكن أن ينفي وجود طبيعة أساسية تمكن الفرد من ممارسة العنف والعدوان، إلا انه ينوه بأن وجود مثل هذه الطبيعة الأساسية لا يعني بالضرورة الممارسة التلقائية للعنف والعدوان وهي الممارسة التي تتطلب توفر عوامل محيطة واجتماعية والتي تجعل من هذا السلوك ممكنا، وبالتالي فأن التحكم بهذه العوامل والسيطرة عليها ممكن أن يؤدي إلى الحد من العنف. وهناك الكثير من العوامل الاجتماعية والمحيطية والتي تعتبر ذات تأثير كبير في عمليات اكتساب السلوك العدواني وإثارته واستمراره، ومن هذه العوامل هي: حالات الإحباط، حالات التعرض لنماذج عدوانية، المكافأة وإسناد العنف، الإثارة الجسدية والمعنوية وكذلك الإثارة الجنسية. أما العوامل المحيطية التي لها تأثير في سلوك الفرد وتسهل انتقال العنف والعدوان فهي كثير ولعل أبرزها: الازدحام، والضوضاء، تلوث البيئة، الحرارة وكذلك المخدرات والكحول والعقاقير بمختلف أنواعها.
وفي هذا المجال، وبعيدا عن التفاصيل، أشير إلى علاقة العنف والعدوان بالإحباط، حيث فسرت النظريات القديمة هذه العلاقة مؤكدة أن هناك علاقة ثابتة بين الإحباط والعدوان، وأن العدوان ينبع من دافع يثار عندما تحبط مساعي الفرد في التوجه لتحقيق هدف معين، وبرأي هذه النظريات أن الدافع للتعدي قد يكون أو لا يكون ذو أساس بيولوجي إلا أن ارتباطه بالإحباط ثابت، بمعنى أن الإحباط يؤدي دائما إلى العدوان، والعدوان يسبق دائما الإحباط. أما الآراء الأكثر حداثة في هذا المجال فهي التي تؤكدان العلاقة بين الإحباط والعدوان ليست ثابتة بحيث يؤدي الإحباط دائما إلى ممارسة العنف ثم أن العدوان لا يأتي دائما نتيجة للإحباط وليس كل محبط عنيف، وكذلك ليس كل عنيف محبط، وأن هذا الأمر يتأثر بشكل كبير بالخبرة الفردية والتعلم والثقافة والتدريب، إلا أن هناك نوع من الإحباط المستديم والمتأصل ممكن له أن تثير العدوان والعنف بدرجة أكبر من غيره، فمثلا على المستوى الفردي فأن التربية السيئة للفرد منذ الصغر والإهمال وعدم الرعاية بإمكانها أن تكون مصدرا للعدوان، وعلى المستوى المجتمعي العام فأن الأزمات طويلة الأمد كالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وما تسببه من معاناة جماعية وإحباط ممكن أن تؤدي في لحظات ما إلى العنف الشامل على خلفيتها المحاكاتية المتشابهة التي تؤدي إلى تجمع الناس وتنظيمهم وبالتالي اندفاعهم نحو العنف لإزالة أسباب الإحباط، ولعل في ذلك يكمن التفسير النفس اقتصادي لحدوث مختلف الثورات في التاريخ وما يصاحبها من أعمال العنف !!!!!!.
اضف تعليق