يُصادف هذا العام ذكرى مرور 40 عاماً على اشتعال الحرب الأهلية في لبنان (13 نيسان/أبريل 1975)، وهي الحرب التي لم تهدأ نارها إلا بعد خمس عشرة سنة حين جرى توقيع اتفاق الطائف في العام 1990.
وقد أخطأ من ظنَّ أنّ الحرب اللبنانية عام 1975 كانت حرباً أهلية فقط، تنتهي باتّفاق اللبنانيين فيما بينهم. ويخطئ من يظنّ اليوم أنّ "المستقبل اللبناني" سيتحقّق بإرادة لبنانية فقط. فلقد كانت أزمة لبنان منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم مزيجاً من عوامل مركّبة داخلية وخارجية تتحرّك دائماً معاً لتصنع الأزمات والصراعات المسلّحة أحياناً، والتسويات السياسية أحياناً أخرى. هكذا هو التاريخ اللبناني المعاصر كلّه، منذ كان لبنان هو "منطقة جبل لبنان" فقط، أيام حكم "المتصرّفية" في أواخر القرن التاسع عشر، وحيث جرت حرب الطائفتين المارونية والدرزية عام 1860 بتشجيع وتسليح أجنبي فرنسي وبريطاني.
ثمّ هكذا كان الحال عام 1958 حينما شهد لبنان أحداثاً دموية، كانت هي أيضاً مزيجاً من عناصر أزمة سياسية داخلية، مع تحريك وتأثير خارجي نتج عن إعلان مشروع حلف أيزنهاور والصراع الأميركي مع مصر عبد الناصر..
وجاءت حرب نيسان/أبريل 1975 لتؤكّد من جديد هذه الخلاصة عن تاريخ الأزمات اللبنانية، حيث امتزج الصراع الداخلي بأسبابه السياسية والاجتماعية مع الأبعاد الإقليمية والدولية، وتحديداً حول الموقف الإقليمي والدولي من الصراع العربي الإسرائيلي ومن الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان.
وقد استطاعت إسرائيل في احتلالها المباشر أوّل مرّة عام 1978 لمناطق لبنانية عديدة، ثمّ في احتلالها وغزوها لمناطق أخرى وللعاصمة بيروت عام 1982، أن تكون هي أكثر العوامل تأثيراً في الحرب اللبنانية وفي انعكاساتها الفلسطينية والسورية والعربية عموماً، بينما خطوات التسوية والمعاهدات كانت تجري على جبهات عربية أخرى.
وصحيحٌ أنّ إسرائيل حقّقت أهدافاً كثيرة في محطّات الحرب اللبنانية، واستطاعت الوصول بغزوها العسكري عام 1982 إلى أوّل عاصمة عربية، لكن أيضاً كان لبنان أوّل بلد عربي يُجبر إسرائيل على الانسحاب عام 2000 بفضل المقاومة الشعبية، لا حصيلة مفاوضات ومعاهدات.
وصحيح أنّ إسرائيل دعمت أطرافاً لبنانية في الحرب وساهمت بإشعال معارك طائفية عديدة، لكنّها فشلت في تجزئة الوطن اللبناني وانتصر اتفاق الطائف العربي على مشاريع التقسيم الطائفي الإسرائيلي.
لكنّ البيت اللبناني الواحد ما زال مهدّداً بالانهيار، فتنفيذ اتفاق الطائف لم يصل إلى حدّ إلغاء الطائفية السياسية وتحقيق المواطنة السليمة في وطنٍ يقوم على طوائف مختلفة، حيث المطلوب ليس إلغاء أيّ طائفة أو مذهب بل إلغاء الطائفية السياسية والمذهبية السياسية، إذ كلاهما يؤدّيان إلى حروب الطوائف والمذاهب وإلى استغلال الخارج لصراعات الداخل.
وهاهو لبنان الآن يعيش مزيجاً من تأثيرات التاريخ والجغرافيا على كيانه ونظامه، وعلى أمنه واستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه وكيفيّة بناء نظامه الطائفي، كلّها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تماماً كما هو أيضاً دور موقع لبنان الجغرافي حيث الخيار هو فقط بين محيطه العربي وبوابته السورية، وبين الوجود الإسرائيلي الذي سبّب أصلاً حدوث مشكلة مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين، كما أنّ هذا الوجود أيضاً هو مصدر الأخطار على أرض لبنان وعلى وحدة شعبه.
وإذا كان اللبنانيون لا يستطيعون تغيير دور الجغرافيا في تطوّرات أوضاع كيانهم الوطني، فإنّهم لم ينجحوا حتماً في تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرّة في طبيعة نظامهم الطائفي السياسي. وهاهو لبنان الآن يعاني من مزيج تأثيرات الموقع الجغرافي ومن تراكم الأخطاء التاريخية المحلّية.
وما جرى في لبنان منذ 40 عاماً كان "نموذجاً" أرادت وعملت إسرائيل على تعميمه في بلاد عربية أخرى. فالحروب الأهلية العربية هي التي تُشغل العرب جميعاً عن الصراع مع إسرائيل، وهي التي تُهمّش القضية الفلسطينية، وهي التي تجعل "كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي"، وهي التي تُحطّم الكيانات العربية القائمة الآن وتستبدلها بدويلات طائفية ومذهبية وإثنية تسبح جميعها في "فلك الدولة اليهودية الإسرائيلية". فما حدث في لبنان من حرب أهلية تكرّر في السودان وأدّى إلى تقسيمه، كما جرت الحروب الأهلية في الجزائر والعراق والصومال، وهي تحدث الآن في سوريا وليبيا واليمن، وحتّى مصر كانت في الحقبة السابقة مهدّدةً أيضاً بهذا الخطر الطائفي التقسيمي.
أربعون عاماً مضت على اشتعال حرب لبنان التي تزامنت مع توقيع نظام مصر-السادات على المعاهدة مع إسرائيل ثمّ على معاهدات "كامب ديفيد"، كما ترافقت أيضاً مع الحرب العراقية– الإيرانية عقب اندلاع الثورة الإيرانية، والتي حوّلت سفارة إسرائيل في طهران إلى سفارة فلسطين وأنهت العلاقة القوية التي كانت قائمة بين نظام الشاه والكيان الإسرائيلي.
أربعون عاماً تخلّلها أيضاً غزو النظام العراقي السابق لدولة الكويت، وتهديده للسعودية وللإمارات العربية بسبب "حفنة من الدولارات"، بينما النتيجة كانت تدمير العراق وفرض الحصار القاسي عليه لعقدٍ من الزمن، وتوزيعه إلى مناطق مقسّمة على أسسٍ إثنية ومذهبية، مما سهّل الحرب الأميركية - البريطانية عليه في العام 2003 ثمّ تفجير الصراعات الداخلية المسلّحة التي أفرزت "القاعدة" و"داعش" في المنطقة العربية، وما تقوم هذه الجماعات به الآن من أعمال إرهابية بأسماء دينية ومذهبية.
ولقد كانت محطة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 هي المقدّمة أيضاً لما حصل فيما بعد من إضعاف لدور "منظمة التحرير الفلسطينية" ودفع قيادتها إلى اتفاقيات أوسلو وأخواتها لاحقاً. وهكذا أيضاً تعرّض مئات الألوف من الفلسطينيين للتشرّد والتهجير من بلد عربي إلى آخر بسبب هذه الحروب والصراعات الأهلية العربية، ونتيجة تورّط منظمات فلسطينية في أتون الصراعات وعدم نأي القضية الفلسطينية عنها. وكانت محصلة ذلك كلّه ما نراه اليوم من صراع فلسطيني داخلي ومن انقسام خطير في الجسم وفي القيادة الفلسطينية.
تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في العقود الأربعة الماضية، منذ خروج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، كان منها إمّا ما هو بفعل إراداتٍ وظروفٍ محلية، أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً.
والأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سلبيّات العقود الماضية، وأخطر هذه السلبيّات هو تصاعد دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلدٍ عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية. فليست الظروف الداخلية فقط هي وراء عناصر الصراعات في هذا البلد وذاك، بل يلعب أيضاً التدخّل الدولي والإقليمي دوراً هاماً في تقرير مصير بعض البلدان العربية.
لكنْ مهما كانت تداعيات المرحلة الماضية سيّئةً وبالغةَ التعقيد، ومهما كانت سلبيّات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية قادرةٌ على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً، طالما حافظت على وحدة الشعب والوطن، وأدركت بحقّ من هو الصديق ومن هو العدوّ.
اضف تعليق