هذا الحدث شكل تأثيرا أكبر بين الأطراف الثلاثة أمريكا، تركيا، والسعودية، فأمريكا، إنقسم موقفهم بين الإدارة من جهة ومجلس الشيوخ والصحافة من جهة أخرى، فموقف الإدارة لا يتعدى إبداء القلق ومطالبة السعودية إجراء تحقيق معمق وشفاف، في حين موقف مجلس الشيوخ جاء بصيغة تحذيرية تحمل...

شكل إختفاء الكاتب الصحفي جمال خاشقچي بعد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول يوم الثلاثاء المصادف 2/10/2018 قضية رأي عام عالمية شغلت وسائل الإعلام، كما أبرزت مواقف دولية من الحدث يتراوح بين الجدية والمجاملات الدبلوماسية، لكن هذا الحدث شكل تأثيرا أكبر بين الأطراف الثلاثة أمريكا، تركيا، والسعودية، فأمريكا، إنقسم موقفهم بين الإدارة من جهة ومجلس الشيوخ والصحافة من جهة أخرى، فموقف الإدارة لا يتعدى إبداء القلق ومطالبة السعودية إجراء تحقيق معمق وشفاف، في حين موقف مجلس الشيوخ جاء بصيغة تحذيرية تحمل طابع التهديد للمملكة.

إذ وصفوا إختفاء خاشقچي بأنه سينعكس بشكل مؤثر على العلاقات بين السعودية وأمريكا، في حال تأكد مقتله، والصحافة الأمريكية نددت بالحادثة، كما شهدت واشنطن وقفات إحتجاجية ضد المملكة.

أما تركيا دعت عبر رئيسها أردوغان إلى تقديم أدلة تثبت مغادرة خاشقچي مقر القنصلية السعودية في إسطنبول، وأشارت تقارير صحفية وإستخبارية تركية على وجود معلومات وأدلة على مقتله داخل القنصلية وهي قيد التحقيق، وفي حال توظيف تلك الأدلة والإفصاح عنها فستثبت تجسس المخابرات التركية على البعثة الدبلوماسية السعودية مما يؤدي إلى تصعيد التوتر بين السعودية وتركيا، في إطار علاقات متراجعة لم تكن في الأصل جيدة بينهما.

فيجب القول منذ البداية، إن أسباب الأزمة المتصاعدة بين أنقرة والرياض لا ترتبط بإختفاء الصحفي جمال خاشقچي ومعرفة مصيره، ولا علاقة لها بالدفاع عن الحقوق والحريات، إذ إن عشرات من الصحفيين يقبعون في السجون التركية، وأردوغان أغلق عشرات المؤسسات الإعلامية في تركيا، والوضع أكثر سوءا في السعودية.

وتنحصر الأزمة بين الطرفين تحديدا على التنافس الجيوسياسي والصراعات والتوازنات الإقليمية، وهي السبب الرئيس في تراجع العلاقات بين الدولتين اللتين تسعيان لتأكيد حضورهما الإقليمي والدولي وإثبات التفوق والقدرة على التفاوض والتحدث باسم المنطقة مع بقية دول العالم، ولهذا وضعت السعودية نفسها في محور يضم الإمارات والبحرين ومصر والأردن وإلى حدٍ ما الكويت والسودان وإسرائيل، أما تركيا فوضعت نفسها بمحور أقل صلابة في علاقات أعضائه إلى جانب روسيا وإيران، مع حفاظ أنقرة على قدر من العلاقات المتفاوتة مع إسرائيل والولايات المتحدة والإتحاد الأوربي.

ولهذا يمكن اعتبار قضية إختفاء خاشقچي إحدى نقاط الإشتباك والتماس والصراع بين المحورين، لكن لن تتعدى حدود المواجهات الدبلوماسية وحرب التصريحات، فأي مواجهة ستبقى غير مباشرة ولن تكون إلا في مناطق الصراع الأخرى أو بالوكالة، علما أن المحورين لا يسعيان للوصول إلى هذا المستوى فعامل المصالح يبقى حاضرا، ولن تأخذ قضية إختفاء خاشقچي مدى أوسع من ذلك، وقد توظف هذه القضية لترتيب أولويات الصراع والتنافس في المنطقة سواء في سوريا أو الموقف من الأزمة الخليجية مع قطر.

الطرف المهم في معادلة التنافس التركي - السعودي هو واشنطن وبعد دخولها على خط الأزمة ومن خلال تصريحات ترامب وتأكيده على ضرورة استمرار صفقات السلاح والإستثمارات مع الرياض وطرح معادلة: شخص واحد أم مليارات الدولارات؟، حملت هذه المعادلة مؤشرات على علاقات واشنطن بالرياض المتينة القائمة على أساس المصالح المستحصلة لصالح أمريكا مقابل الحماية المقدمة للسعودية، ولهذا بدا الموقف التركي أكثر ضعفا لذلك اتجهت إلى مناورة دبلوماسية تجسدت بإطلاق سراح القس أندرو برونسون بشكل مفاجئ لأنها لا تريد أن تراكم خلافتها مع أمريكا في ظل تزايد تلك الخلافات مع الرياض والمحور القريب من واشنطن.

كما أن إنهيار الليرة التركية كان له تبعاته، خاصة أن ترامب ينظر لتركيا بعين عدم الرضا نتيجة تقاربها مع إيران وروسيا في سوريا وحتما سيكون غير راضيا عن التراجع والتنازل لتمرير صفقة القرن والأستمرار بالحصول على الأموال السعودية إذ إنه قال: "في حال لم تدخل الـ110 مليار دولار من السعودية للإقتصاد الأمريكي، فإنها ستذهب إلى الصين وروسيا". فأتضح أن ترامب يريد ملئ خزينته، ولا يريد إزعاج الإقتصاد الأميركي، من أجل موقف مرحلي يتسم بالتشدد من حليفته السعودية.

ولهذا لا تريد تركيا التراجع عن استثمار ورقة إختفاء خاشقچي لأنها تتعلق بإنتهاك سيادتها وتعد اختبارا لقدراتها الإستخبارية والأمنية، لكن في ظل تراجع العلاقات مع واشنطن من الصعب النجاح بتوظيف هذه الورقة، فترميم العلاقات التركية مع واشنطن في الظرف الراهن حاجة ملحة وضرورية تصب في مصلحة أنقرة خاصة مع ترابط الأحداث، فبالإضافة لقضية التنافس التركي السعودي وتحسين وضع الإقتصاد التركي وإنتعاش الليرة، تراهن تركيا على إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية سراح هاكان أتيلا النائب السابق لمدير مصرف "خلق بنك" التركي، وذلك ردا على إطلاق تركيا سراح القس أندرو برانسون، كما أنها قد تتوقع موقفا أكثر ليونة من قبل واشنطن في ما يتعلق بالدور التركي في شمال سوريا تحديدا في منطقة منبج، إضافة إلى تأمين تقارب مع واشنطن في حال فشل أتفاق إدلب وعدم التمكن من ضمان وجود منطقة عازلة وعدم فصل المعارضة المسلحة عن المعارضة المعتدلة، وشن هجوم روسي سوري على إدلب.

بالمقابل المملكة العربية السعودية ستعاني جراء إختفاء خاشقچي إضافة إلى معاناتها في اليمن وفشل رهانها على سقوط الأسد في سوريا، واستمرار إبتزاز ترامب لها الذي سيستثمر مؤكدا ملف إختفاء الصحفي السعودي للحصول على صفقات دائمة.

مع ذلك الأطراف الثلاثة استفادوا من قضية خاشقچي، فالولايات المتحدة كما أشرنا ستضيف ورقة للضغط والإبتزاز المالي للمملكة، وتركيا سيتعزز موقفها ضد الرياض في خلق تقارب مع واشنطن وتعزيز موقفها في النفوذ الإقليمي بعد إضعاف الرياض، أما المملكة ستحقق غاية ضرورية تتمثل بإجتثاث وسحق أي صوت معارض داخل وخارج المملكة، وتصبح تلك المسألة طبيعية إزاء المجتمع الدولي.

في الحقيقية لا يوجد خاسر في قضية إختفاء جمال خاشقچي، إلا خاشقچي نفسه ومحبيه، وكذلك حرية الرأي والتعبير والصحافة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق