مكثت الدول العربية في سبات عميق طوال أجيال من الزمن سادها الخنوع والخضوع للحاكم بأمره وبقوة السلاح والقمع المستديم، توقفت فيها عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتخلف فيها أجيال من الرجال والنساء والأطفال عن ركب الحضارة الإنسانية، في حقبة شؤم ملأها الجهل والأمية وعدم مجاراة العصر...
مكثت الدول العربية في سبات عميق طوال أجيال من الزمن سادها الخنوع والخضوع للحاكم بأمره وبقوة السلاح والقمع المستديم، توقفت فيها عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتخلف فيها أجيال من الرجال والنساء والأطفال عن ركب الحضارة الإنسانية، في حقبة شؤم ملأها الجهل والأمية وعدم مجاراة العصر في تجلياته العلمية والتكنولوجية والتقنية والمعلوماتية.
وسجلت اليقظة المباغتة للشعوب في تونس ومصر وليبيا واليمن تحول تاريخي، لا تزال علامات الاستفهام كبيرة بمداه ونهايته وحصاده، وتثير الكثير من التساؤلات في ظروف ضعف الطلائع السياسية لقيادتها ووقوفها خلف الأحداث تنتظر ماذا يقرر الشباب الثائر، كما أن الخوف المشروع من حصاد ثورة الشباب من قبل قوى الكسل والتطرف والمتربصة للاستحواذ على نتائج الثورة حاضرا بقوة، مستغلة في معظمها الخطاب الديني المتطرف في التعبئة الحشدية وللانقضاض على الثورة وحرف مسارها صوب مستقبل مجهول مستفيدة من زخم الفقر والفاقة والجهل وما يتركه من انفعالات مؤذية في ردود الأفعال في ظروف لم تتضح وتنضج فيه الخيارات الديمقراطية الحرة، فتنساق الجماهير عبر تهيج انفعالاتها صوب صناديق الاقتراع المنتظرة لوضع ورقتها الانتخابية بيد من لا يؤمن ولا يحترم الديمقراطية وصناديقها الانتخابية، والتي لا تحمل بديلا اقتصاديا واجتماعيا، والذي يفترض أن يكون سيد الموقف الانتخابي، فتضيع طموحات الشباب وتسرق ثوراتهم، وتكون هذه المرة من خلال " صناديق الاقتراع المشرعنة "، والتي يتباهى فيها الكثير من الكتاب عبر أسألتهم: " الم يأتوا بصناديق الاقتراع "؟؟؟،فيتحول الصندوق الانتخابي إلى صندوق اسود يحمل في طياته إعادة توليد التخلف والفقر والاستبداد.
أن نتائج " الصندوق الانتخابي الأسود " لا تفرز أي نهضة جديدة في المجتمعات العربية نظرا لغياب خمائر الفكر النقدي والمنطقي وغياب العقل الفلسفي الذي يقطع الصلة مع العقل القروسطي السائد والمهيمن الذي لازلنا نخضع له ونعاني منه، ونشهد لهيمنته في كل ثنايا حياتنا اليومية ويعمل جاهدا وبقوة لإقصاء واستبعاد المشتغلين في الحقول المعرفية والعلمية، إلى حد تكفيرهم وإخراجهم من الملة والدين والطائفة والقومية، عبر إقصائهم ونفيهم وسجنهم، وتكريس غيبوبة العقل المناهض ويقف حجرة عثرة بوجه تجديد العقل السياسي ونهضة التفكير العقلاني المتنور، ويحل في ثناياه ثقافة الغيب والخرافة والفساد، وإشاعة أنماط من الحروب الطائفية والمذهبية والمناطقية، ويعمل على تفتيت الوحدة الوطنية للمجتمع.
وهكذا تنتج صناديق الاقتراع السوداء "جماهير" وكتل قطيعيه لا تحمل أي مشروع نهضوي، تتسم بضعف الفاعلية والبطئ، وانعدام الاكتراث بالوقت، وقتل المبادرة الفردية، والنمطية والانفرادية، والشكلية ومقاومة التغير، وضعف ثقافة التساؤل، واضطراب منهجية التفكير وقصور التفكير الجدلي، وضعف الحاسة النقدية، وسيادة الثقافة الاقتباسين وثقافة حفظ النصوص "قال ويقول فلان" وتتحول إلى نصوص مقدسة وشعارات" للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الانتحارية " لتصبح مؤشرات ومرشد عمل بغير زمانها ومكانها الذي قيلت فيه.
ويؤكد العالم نعوم تشومسكي ذو المعرفة الموسوعية في علم النفس، واللسانيات، وفلسفة اللغة، وفلسفة العقل، والسياسة والأخلاق، أن هناك عشرة استراتيجيات للتحكم بالشعوب وحرف إرادتهم، وهي:
1ـ استراتيجية الإلهاء: هذه الإستراتيجية عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، ويتم ذلك عبر وائل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. إستراتيجية الإلهاء ضرورية أيضا لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضرورية في ميادين مثل العلوم، الاقتصاد، وعلم النفس، بيولوجيا الأعصاب وعلم الحواسيب. " حافظ على تشتت اهتمامات العامة بعيدا المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، اجعل الشعب منشغلا، منشغلا، منشغلا، دون أن يكون له وقت للتفكير، وحتى يعود للضيعة مع بقية الحيوانات ".
2 ـ ابتكر المشاكل .... ثم قدم الحلول: هذه الطريقة تسمى أيضا " المشكل ـ ردة الفعل ـ الحل ". في الأول نبتكر مشكلا أو مشكلا أو " موقفا " متوقعا لنثير ردة فعل معينة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها. مثلا ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حريته، أو: ابتكار أزمة مالية حتى يتم تقبل التراجع على مستوى الحقوق الاجتماعية وتردي الخدمات العمومية كشر لابد منه.
3 ـ استراتيجية التدرج: لكي يتم قبول إجراء غير مقبول، يكفي أن يتم تطبيقه بصفة تدريجية، مثل أطياف اللون الواحد (من الغامق إلى الفاتح)، على فترة تدوم 10 سنوات. وقد تم اعتماد هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو ـ اقتصادية الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم، وهي تغييرات كانت ستؤدي إلى ثورة لو تم تطبيقها دفعة واحدة.
4 ـ استراتيجية المؤجل: وهي طريقة أخرى يتم الالتجاء إليها من اجل اكتساب من اجل إكساب القرارات المكروهة القبول وحتى يتم تقديمها كدواء " مؤلم ولكنه ضروري "،ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل. قبول تضحية مستقبلية يكون دائما أسهل من قبول تضحية حينية. أولا لأن المجهود لن يتم بذله في الحين، وثانيا لأن الشعب له دائما ميل لأن يأمل بسذاجة أن " كل شيء سيكون أفضل في الغد "،وأنه سيكون بإمكانه تفادي التضحية المطلوبة في المستقبل. وأخيرا يترك كل هذا الوقت للشعب حتى يتعود على فكرة التغيير ويقبلها باستسلام عندما يحين أوانها.
5 ـ مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: تستعمل غالبية الإعلانات الموجهة لعامة الشعب خطابا وحججا وشخصيات ونبرة ذات طابع طفولي، وكثيرا ما تقترب من مستوى التخلف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوق ذهنيا. كلما حاولنا مغالطة المشاهد، كلما زاد اعتمادنا على تلك النبرة. لماذا؟". إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردة فعل مجردة من الحس النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردة الفعل أو إجابة الطفل ذي ألاثني عشر عاما ".
6 ـ استثارة العاطفة بدل الفكر: استثارة العاطفة هي تقنية كلاسيكية تستعمل لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما لن استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور للاوعي حتى يتم زرعه بأفكار، ورغبات، ومخاوف، ونزعات أو سلوكيات.
7 ـ أبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة: العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطرق المستعملة للتحكم به واستعباده. " يجب أن تكون نوعية التعليم المقدم للطبقات السفلى هي النوعية الأفقر، بطريقة تبقى أثرها الهوة المعرفية التي تعزل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى".
8 ـ تشجيع الشعب على استحسان الرداءة: تشجيع الشعب على أن يجد أنه من " الرائع " أن يكون غبيا، وهمجيا وجاهلا.
9 ـ تعويض التمرد بالإحساس بالذنب: جعل الفرد يظن انه المسئول الوحيد عن تعاسته، وأن سبب مسؤوليته تلك هو نقص في ذكائه وقدراته أو مجهوداته. وهكذا عوضا أن يثور على النظام الاقتصادي، يقوم بامتهان نفسه ويحس بالذنب، وهو ما يولد دولة اكتئابية يكون أحد أثارها الانغلاق وتعطيل التحرك. ودون تحرك لا وجود للثورة.
10 ـ معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم: خلال الخمسين سنة الفارطة، حفرت التطورات العلمية المذهلة هوة لا تزال تتسع بين المعارف العامة وتلك التي تحتكرها وتستعملها النخب الحاكمة. فبفضل علوم الأحياء، وبيولوجيا الأعصاب وعلم النفس التطبيقي، توصل " النظام " إلى معرفة متقدمة للكائن البشري، على الصعيدين الفيزيائي والنفسي. أصبح هذا " النظام " قادرا على معرفة الفرد المتوسط أكثر مما يعرف نفسه، وهذا يعني أن النظام ـ في اغلب الحالات ـ يملك السلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم.
لقد استطاعت النظم الدكتاتورية في بلداننا عبر عقود وبتقنيات الخداع المحكمة أن تحول شرائح واسعة من الجمهور إلى كتل هامدة سهلة الانقياد، تتسم بضعف القابلية على التفكير العقلاني، وانعدام الروح النقدية لديها، واتسامها بالنزق وسرعة الغضب والانفعال، والسذاجة، وسرعة التصديق، إضافة إلى تبسيط الأمور واستسهال إطلاق الاتهامات، ويصبح عبدا للتحريض الذي يطلقه " قائد الضرورة "،وحذار اليوم بعد التغيرات التي تشهدها المنطقة من صعود الحركات المتطرفة والأصولية واستخدامها الجماهير في إثارة المشاعر وتجيش الأحقاد والكراهية بين المكونات الاجتماعية، وتكون هذه المرة عبر صناديق الاقتراع السوداء والمشرعنة، وعندها نحتاج إلى عقود قادمة لكي يطل علينا بطل جديد كسالم البو عزيز يحفز فينا روح الثورة الحق.
اضف تعليق