q
بعد الإنقسام السُني على منصب رئيس مجلس النواب والإنقسام الشيعي على منصب رئيس الوزراء، لأول مرة يحصل إنقسام كُردي على منصب رئيس الجمهورية، وطبعا هذا له مسببات مرتبطة بعدم حسم هوية الكتلة الأكبر، فقد اختار الكُرد الوقوف على التل وظهروا بموقف موحد إزاء تمخضات تشكل...

لم يتوقف الإحتدام السياسي عند نزاهة الإنتخابات النيابية في مايس الماضي، بل أستمر بعد الإختلاف على أختيار رئيس مجلس النواب في الجلسة الأولى، واحتاج أسبوعين إضافيين خارج التوقيتات الدستورية، وكذلك عدم حسم هوية الكتلة الأكبر منذ الجلسة الأولى ولغاية كتابة هذه السطور، لم تحسم في إطار المحكمة الاتحادية ولا في إطار التفاهمات والتحالفات السياسية.

وانعكس ذلك على صناعة منصب رئيس الجمهورية، فبعد الإنقسام السُني على منصب رئيس مجلس النواب والإنقسام الشيعي على منصب رئيس الوزراء، لأول مرة يحصل إنقسام كُردي على منصب رئيس الجمهورية، وطبعا هذا له مسببات مرتبطة بعدم حسم هوية الكتلة الأكبر، فقد اختار الكُرد الوقوف على التل وظهروا بموقف موحد إزاء تمخضات تشكل تلك الكتلة مشترطين بمطالب عجز المفاوضون من تلبيتها أو القبول بها على الأقل.

ولكن الحسابات الكُردية لم تكن في محلها، فطرق الضغط على القوى الشيعية لتأمين المطالب لم تجدي نفعا، وشد الخلاف بعد إتضاح أن حسم المناصب العليا الثلاثة قد تمر دون وجود إتفاق سياسي جديد مع الكُرد يعيد لهم كركوك وسيطرة البيشمرگه عليها وعلى المناطق المتنازع عليها والمعابر الحدودية والمطارات وإعادة نسبة 17% في الموازنة للإقليم.

لأن القبول بهذه الإشتراطات يعني الظهور بمظهر النفاق السياسي الصريح لهذه القوى أمام الشعب العراقي والمجتمع الدولي، كما أنه يكرس نزعة الإنفصال مرة أخرى ويهيأ المناخ السياسي والأمني والاقتصادي لذلك، ولهذا يعمل الحزب الديمقراطي الكُردستاني راعي إستفتاء الإنفصال، على البحث عن مناورة أخرى لتدعيم الإنفصال وإستعادة النفوذ الكُردي وخاصة الذي فقده مسعود البارزاني بعد فشل الإستفتاء، وتتمثل هذه المناورة بالمطالبة بمنصب رئاسة الجمهورية الذي كان وفق التفاهمات من حصة حزب الإتحاد الوطني منذ عام ٢٠٠٥ ولازال هذا الحزب متمسكا بالمنصب بعد ترشيح برهم صالح عنه، ووفقا لنتائج الانتخابات النيابية فأن الحزب الديمقراطي هو الحاصل على المقاعد الأكثر بين الأحزاب الكُردية مما يتيح له النفوذ إلى المنصب عبر تأييده لمنصب رئيس مجلس النواب كما حصل، وكذلك قد يكون الدالة لإعلان تحالف الحزب مع أحد الكتلتين البناء والإصلاح لتأكيد هوية الكتلة الأكبر وتشكيل الحكومة بسلاسة رغم اقتراب الإتفاق على تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة من قبل تحالف البناء.

إلا أن مسألة تحديد الكتلة الأكبر تبقى عائقا دستوريا، ولهذا لم يتم رفض مرشح الحزب الديمقراطي الكُردستاني من الطرفين رغم مواقفه من الإستفتاء وبعد قبول ترشيحه وإعلان تحالف المحور الوطني التصويت لصالحه قد يكون منصب رئيس جمهورية العراق قريبا من فؤاد حسين أكثر منه لبرهم صالح، خاصة بعد إعلان مسعود بارزاني إعتماد سياق الأغلبية للإختيار، إذ قال: "نؤكد على ضرورة أن يعود القرار في إختيار أي شخصية لشغل منصب رئاسة الجمهورية للكتل الكُردستانية في بغداد وأن يتم الإتفاق على أي مرشح يحصل على النسبة الأكبر من التصويت كمرشح لإقليم كُردستان لهذا المنصب، كما أطالب كافة الأطراف باحترام رأي الأغلبية من الكتل الكُردستانية في بغداد والتي ستختار المرشح لرئاسة الجمهورية".

هذا الإصرار على إغتنام منصب رئيس الجمهورية يعد منصة بديلة عن إخفاق الحزب الديمقراطي من ليّ ذراع من يسعى لتشكيل الكتلة الأكبر، كما يمكن استثمار المنصب في المحافل الدولية لتعزيز قضية الإنفصال والترويج للمسألة الكُردية في العراق إضافة إلى استثمار الصلاحيات الدستورية المناطة برئيس الجمهورية فيما ما يتعلق بالمصادقة على القوانين والتشريعات والمراسيم والمعاهدات وأحكام الإعدام وغيرها، فأي عرقلة أو توظيف لهذه الصلاحيات لصالح القضية الكُردية يعد مفيدا جدا، وأي إعتراض أو طعن في تلك الصلاحيات يظهر الطرف الكُردي بمظهر المُضطَهَد والمهمش بما يعزز نزعة الاستقلال والإنفصال.

بالمقابل وفي إطار العلاقة مع حزب الإتحاد الوطني سواء داخل الإقليم إزاء بغداد فلم يعد لذلك أهمية كبرى، فإنتخابات برلمان إقليم كُردستان أظهرت تفوق للحزب الديمقراطي كما تفوق في الانتخابات النيابية الإتحادية رغم عدم دخوله في محافظة كركوك وكانت مناورة براغماتية نافعة لتعزيز حظوظه الإنتخابية، ولهذا سيسيطر على برلمان إقليم كُردستان من حيث عدد المقاعد وقد يتحكم برئاسته مضافا إلى رئاسة حكومة الإقليم والوزارات وأي تفاهم وتقاسم مع حزب الاتحاد سيكون من باب التنازل المقرون بالإمتنان من قبل حزب الاتحاد للحزب الديمقراطي مما يسهل عملية السيطرة أو إخماد الأطراف المعارضة داخل كُردستان والتي لن تصبح فاعلة إلا بدعم حزب الإتحاد.

إضافة إلى كل ذلك فإن كركوك من خلال وجود رئيس جمهورية من الحزب الديمقراطي سيعزز فرص عودة نفوذ الحزب للمحافظة وخاصة السيطرة على النفط إذا ما تعززت علاقة الحزب بالكتلة الأكبر ومرشحها الذي حتما سيكون لينا إزاء المطالب الكُردية لأن غطاءه السياسي لن يكون متيناً وسيعتمد على الغطاء السياسي السُني والكُردي المتمثل بالحزب الديمقراطي نظرا لإنشطار التحالف الوطني إلى شطرين متنافسين تكاد تكون فرص التئامهما شبه معدومة نتيجة الموقف من إيران والولايات المتحدة وقضايا تتعلق بالمناصب والأوزان المتقاربة التي تفرض إنعدام التحالف بينهما.

ولعل الموقف الإقليمي والدولي الذي أستباح الساحة السياسية العراقية في مسألة تشكيل الرئاسات الثلاث وتحديد مسار التحالفات له دور في تعزيز حظوظ أحد المرشحين، فالولايات المتحدة تدعم مرشح الحزب الديمقراطي لأن حزب الإتحاد الوطني يمتلك علاقات متينة مع إيران التي تدعم مرشح حزب الإتحاد كما هو معروف، ولهذا يعد تفعيل خيار دعم النزعة الإنفصالية الكُردية التي يسعى إليها مسعود بارزاني ورقة مراهنة أمريكية جديدة لمواجهة إيران في العراق بعد إخفاق ورقة التقسيم إنطلاقا من وجود تنظيم داعش، فيمكن للولايات المتحدة توسيع نفوذها في شمال العراق وتركيز السيطرة على الحدود العراقية السورية ومنع إيران من دعم حليفيها حزب الله ونظام الأسد، إضافة إلى إستخدام الورقة الكُردية كأداة ضاغطة على القوى السياسية المناهضة للمشروع الأمريكي في العراق.

هذه الصناعة المُحاكة بروح الحسابات السياسية الجهورية لمنصب رئيس الجمهورية وإرتباطها الوثيق بمنصب رئيس الوزراء تظهر مدى تعقيد المشهد السياسي العراقي، وأن المأزق السياسي سيستمر عند كل مرة يتم الخوض بمسألة تشكيل الرئاسات الثلاث والمناصب العليا الأخرى، فصناعة المناصب التي تحضر في مطابخ المعنيين يؤشر صعوبة التوصل إلى معادلة مقبولة في المبارزة السياسية الدائرة في بلد يكافح من أجل إستعادة هيبته وسيادته في زمن تزاحم النفوذ الخارجي عليه، مما يشكل إنذاراً حول الدولة الفاشلة أو الغائبة عن المجتمع الذي سيزيد غضب العراقيين كما حصل في البصرة ومحافظات أخرى نتيجة التردي الأمني والسياسي والاقتصادي والتدخل الخارجي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق