في حال صمود الاتفاق، وهو إحتمال ضعيف بالأساس، لن يكرس حالة السلام في عموم سوريا ولن يكون بالضرورة مفتاحا لتفاهمات تهدئة، لأن هذا الاتفاق يقتصر على منطقة جغرافية محدودة قد لا تشمل كل جيوب إدلب وما يحيط بها؛ لأنها بالأساس منطقة آمنة ستضم عدداً محدودا...

كان من المتوقع أن يشن الجيش السوري مع حلفاءه الروس هجوما على محافظة إدلب شمالي سوريا، آخر جيب تتموضع فيه هيئة تحرير الشام وجماعات مسلحة أخرى، إلا أن اتفاق سوتشي الذي أستمر أربع ساعات مغلقة بين الرئيسين التركي والروسي غير مجريات ما كان مخططا له، فقد تضمن هذا الاتفاق بين روسيا وتركيا بإنشاء منطقة آمنة منزوعة السلاح، هذه المنطقة تحت سيطرة تركية روسية ستُقام بعرض يتراوح بين 15 و20 كيلومترا على طول خط التماس، ويبدأ تطبيقها يوم 15/10/ 2018.

نجح الرئيس التركي أكبر داعم للمعارضة السورية المسلحة بإنتزاع هذا الاتفاق من روسيا بعد فشل قمة طهران قبل عشر أيام من هذا الاتفاق، إذ تتخوف تركيا من تدفق واسع للاجئين كما تسعى لتهدئة التصعيد في سوريا في ظل تراجع علاقتها بحلفيها الأمريكي، لكن هل سيصمد هذا الاتفاق أم سيكون مجرد هدنة ومهلة مؤقتة؟

في حال صمود الاتفاق، وهو إحتمال ضعيف بالأساس، لن يكرس حالة السلام في عموم سوريا ولن يكون بالضرورة مفتاحا لتفاهمات تهدئة، لأن هذا الاتفاق يقتصر على منطقة جغرافية محدودة قد لا تشمل كل جيوب إدلب وما يحيط بها؛ لأنها بالأساس منطقة آمنة ستضم عدداً محدودا من سكان إدلب. كما يمكن خرق هذا الاتفاق من قبل الجماعات المسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي رفضته لأنه يفرض عليهم مغادرة المنطقة المخطط لها أن تكون منزوعة السلاح، وكذلك لا تمتلك تركيا الوسائل اللازمة لتطبيق الاتفاق وخاصة نزع سلاح هيئة تحرير الشام، وقد تعجز عن فصل الإرهابيين عن المعارضة المعتدلة، كما قد يخرق الاتفاق من قبل النظام السوري لأن هذا الاتفاق يضع حدا لحلم بشار الأسد بالسيطرة على كامل سوريا، هذا الاتفاق لا شك أنه مجرد مهلة أو هدنة بالنسبة للأسد الذي يريد القضاء على المعارضة المسلحة والسيطرة على جميع الأراضي السورية بأي ثمن كان.

اتفاق سوتشي قد يكون كاستراحة مقاتل، فقد تم تفادي الأسوأ في محافظة إدلب المتاخمة لتركيا، بالإضافة إلى القيود التي ذكرناها، فأن الولايات المتحدة لن تقف متفرجة وستعمل على إتخاذ موقف من أي تقارب روسي تركي إيراني، وتريد تغيير مجريات الحرب في سوريا فهي قريبة من قوات سوريا الديمقراطية العدو الأول لتركيا، كما أنها تعمل على تدريب جماعات مسلحة قرب الحدود العراقية السورية في منطقة التنف، إضافة إلى حليفها إسرائيل المهيمن على الجنوب السوري الذي بدأ بعربون رفض الاتفاق عبر إسقاط الطائرة الروسية، لكن هذه المقاربة التصعيدية للولايات المتحدة جربتها سابقا، فالردع القوي قد لا يكون فعالاً، ما لم يكون مرتبطاً بإستراتيجية واضحة تتلاقى فيها الإجراءات الدبلوماسية والسياسية والمقايضات الصعبة إضافة إلى العسكرية.

ولا شك أن واشنطن قد ترد حال قيام أي هجوم عنيف من قبل الأسد ضد إدلب، بالطريقة التي تختارها، وهي تميل إلى عدم التصعيد والمواجهة الشاملة إنما التدخل والرد المحدود؛ لكنها تدرك أن أي تدخل من قبلها ينبغي أن يكون ضمن إطار سياسي وعسكري أوسع للإسهام في التقليص التدريجي لإرتداد العنف المتوقع من هذا التدخل. لهذا واشنطن قد تسعى لإحراز تقدم في الملف السوري عبر إتباع إستراتيجية مركبة تقوم على دعم ما يسمى المعارضة المعتدلة وفصلها عن الجماعات المصنفة إرهابيا كالقاعدة والنصرة وداعش التي أخترقت المعارضة المعتدلة والسكان المدنيين في إدلب.

ومن جانب آخر قد تعرض على الروس والرئيس بشار الاسد صفقة واقعية، جانب منها غير محبذ للأسد، وهو تطبيق نظام الحكم اللامركزي سياسيا وإداريا لبعض المناطق ومنها إدلب والمناطق التي يتواجد فيها الأكراد في شمالي البلاد، بحيث تمسي هذه المناطق مستقلة عن دمشق في المستقبل المنظور؛ وتعمل واشنطن بتحفيز المجتمع الدولي لإعادة إعمار هذه المناطق ومساعدة سكانها على الاستقرار، على أن تضمن واشنطن مع الروس والحلفاء عدم تقسيم سوريا لدويلات منفصلة، وإنما إرساء أُسس حكم لامركزي في سوريا.

أما الجانب الآخر من الصفقة فسيروق لبشار الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين، ويتضمن قبول الولايات المتحدة وحلفاؤها ببقاء الأسد رئيسا لسوريا خاصة في المناطق التي يسيطر عليها، وتعمل على إنهاء محادثات جنيف ومساراتها التي ترعاها الأمم المتحدة بهدف تنحيته.

والأكيد أن هذه الصفقة قد تكون غير مقنعة للأسد، كونه يسعى لبسط سيطرته وحكمه المركزي على جميع الأراضي السورية بإسناد من روسيا وإيران، كما أنها تتعارض مع حديث واشنطن المستمر على أن الأسد أرتكب جرائم حرب وإبادة جماعية وعليه أن يرحل أو يحاكم لكي تستقر سوريا مستقبلاً.

لكن الواقع يقول خلاف ذلك، إذ أن أي إزاحة قسرية للأسد تمثل خيارا غير مدروس يسمح له ولأنصاره بعرقلة الاستقرار وتدشين حروب أهلية؛ لأنه ومؤيديه سيخشون رد أي رئيس وحكومة مقبلة من الإنتقام.

لكن ما على واشنطن عمله أن عجزت عن تنفيذ هذه الصفقة ورفضتها سوريا؟، وماذا ستعمل لفك الارتباط بينها وبين روسيا كحليف دائم لها؟، ببساطة أما ضرب أستقرار سوريا أو هناك خيار معقول وهو إبراز عجز روسيا من إعادة إعمار سوريا وإدامة الاستقرار، وهي عاجزة فعلا، إذ تعمل واشنطن والمجتمع الدولي على تعليق مساعدات إعادة الإعمار للمناطق السورية التي يسيطر عليها الروس ونظام الأسد، وزيادة ضغط العقوبات الاقتصادية على روسيا وسوريا.

هذه المقاربة تعد الخيار الواقعي الوحيد أمام واشنطن بالنظر إلى الواقع السوري الحالي، فهي تمنح روسيا والأسد خيارين: الأول: إما تدمير إدلب، وبالتالي قد تواجه رد إنتقامي من واشنطن وحلفاءها وأيضا تقريب تركيا من الولايات المتحدة، وتعريض الجيش السوري للخطر وهذا يعمل على إنتزاع شرعيته في السلطة القائمة على أساس قوة الجيش السوري. وثانيا: يقبل الأسد باتفاق إدلب واستمرار تطبيقه ليمتد لجميع المناطق خارج سيطرته عبر الوجود التركي، بالمقابل يضمن الأسد البقاء في السلطة حالياً، وفي حال الحديث عن إنتقال السلطة من الأسد فيتم بالتداول السلمي ويتم إختيار خلف يكون للأسد دورا في هذا الاختيار.

لا شك أن هذه الخيارات قد تكون صعبة ليقبل بها الأسد والروس لكنها صفقة واقعية أمام واشنطن لإبرامها، لأن الطريق الذي تسير فيه الأمور الآن من وجود صراع إرادات كبرى في سوريا، يبدو أسوء من هذه الصفقة بكثير.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق