لاتكتسب الغابة حضورها الا من خلال هذا التعدد الهائل في اشجارها وحيواناتها وطيورها، ولا يكتسب البحر اتساعه وعمقه الا من خلال تعدد الوان مائه واسماكه..
وحتى الحياة نفسها لايمكن ان تعاش اذا لم تكن متغيرة، متحركة، ثائرة، تطارح الناس عراكها، تستكين لهم احيانا، وتثور ضدهم احيانا اخرى.
الوان الناس، تعدد الالسنة، والاذواق والاتجاهات، هي ايضا تمنح هذا الاختلاف الخلاق الذي تقوم عليه طبيعة الخلق الالهي.
لنتخيل غابة فيها نوع واحد من الشجر، ويسكن فيها نوع واحد من الحيوان، ونسمع فيها صوتا واحدا من الطيور، او نتخيل بحرا واحدا في لونه وصوته، ونوع السمك الموجود فيه، او حياة جامدة، رتيبة، ساكنة، او ناس ذوي شكل واحد، ونبرة صوت واحدة، وذوق واحد، واتجاه واحد، هل يمكن ان يذهب بنا التخيل الى مدى ابعد، وكل ماحولنا هو شكل وصوت واحد؟
في السبعينات من القرن الماضي، ولغرض فرض سيطرته ونشر افكاره، عمد حزب البعث العراقي، وهو الذي ورث نوعا من التعدد والتنوع الذي كان سائدا في المجتمع العراقي، عمد لتوطيد سلطته الى جملة من الافعال يجعل من خلالها المجتمع ذو طبيعة واحدة، متشابهة ليست مختلفة، فأسس لذلك ماعرف وقتها ب (الطلائع) وهم الذين ينتمون الى منظمات حزبية من اعمار 6–10 سنوات، ثم منظمات (الفتوة) والذين تكون اعمارهم بين 11 – 15 سنة.
كانت الطبيعة التنظيمية لتلك المنظمات تقوم على ارتداء زي محدد يعرف المنتسبون اليها من خلاله، اضافة الى تدريبات محددة، مع معسكرات يسود فيها الطابع التوجيهي والارشادي لأفكار البعث العراقي.
هذه المنظمات كانت تحتل اوقات فراغ الطلبة بعد الدوام المدرسي، وكانت المدرسة بدورها، وعبر تبعيث المؤسسات التربوية، تقوم بدور اخر، هو الدور الرئيسي في اعداد جيل له صوت واحد، واتجاه فكري واحد، عبر المناهج التربوية، والممارسات داخل جدران المدرسة..
فعلى سبيل المثال، هناك مواضيع الانشاء والتعبير، وهناك النصوص الادبية، وهناك طروحات البعث والقائد المؤسس والاب القائد ثم الرئيس القائد، وهي كلها تفرض لونا واحدا من التلقين والتكريس لثقافة سوف تسود المجتمع العراقي لعقود طويلة.
ولا تقف المسألة عند هذا الحد، انها تمتد الى رفع العلم وكلمة الادارة، والتي تكون مناسبة للتسبيح بحمد البعث وتكريس سطوته وحضوره..
هل اقتصر مسخ الاختلاف والتنوع الذي مارسه البعث في العراق على تلك الاعمار، وداخل المدارس والمنظمات؟
انه سرعان ما أخذ بالتمدد الى كل زاوية من زوايا المجتمع العراقي.
فالشوارع سرعان ماتمتليء بالناس، عند اي حدث او مناسبة ترى السلطات انها فرصة لتحشيد الناس واستعراض قوتها..
مظاهرات ضد كامب ديفيد، مظاهرات ضد الشاه، ضد السعودية، ضد الكويت، ضد ضدهم، المهم ان تكون هناك مظاهرات وان يكون الفضاء العام العراقي يهتف بصوت واحد: يسقط فلان، او يعيش علان..
غير ذلك، ولإحكام سيطرته بصورة اكبر، استملك البعث العراقي وسائل الاعلام من صحافة واذاعة وتلفزيون، لاتكون على صفحتها الاولى، او في نشراتها الاخبارية، الا صورة الرئيس وخبرا عن زيارته التفقدية او اجتماع له او عودة من زيارة خارجية، او وعكة صحية اصابته ربما جراء تناوله عشاءا دسما.. الى اخر ذلك من اخبار وفعاليات..
منذ عمر 6 سنوات الى اعمار متقدمة في مرحلة الشباب، ونحن كنا نشاهد القائد الضرورة، عبر صوره المنشورة على الصفحة الاولى، وفي نشرات الاخبار، وفي الشوارع وعلى جدران المؤسسات، وكنا نطالع افكار البعث ونظرياته الخارقة في الحرية والتحرر وربما الاحترار حد الاجترار، كما لو كنا في مزرعة للحيوان (اشارة الى رواية جورج اورويل الخيالية)..
كيف يخلق المختلف مساحة لاختلافه في مثل تلك الاجواء الموبوءة بالجهل والوحل، بالتلفيق والتصفيق؟
مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الجميع يقرأ نفس الصحف ونفس المجلات ونفس الكتب التي كانت موجودة في تلك الفترة الزمنية، والتي كانت القادمة منها من خلف الحدود تخضع لمقص الرقيب؟
باعتقاد كاتب السطور، ان المختلف، وهو عادة مايكون متمردا ضد كل سلطة، كان يخلق مساحة اختلافه عبر اختلاف القراءة التي يتشارك فيها مع الاخرين، ويعود ذلك الى ان هذا المتمرد وهو يرى المربعات او الدوائر الكثيرة التي يصنعها الاستبداد، فانه يقوم بتكبير مربعه وتوسيع دائرته، سواء كان هذا التكبير او التوسيع ماديا او ذهنيا، يستطيع من خلال ذلك ان يتحرك بمساحة اكبر، وهو يرى ان حدود تلك المربعات او الدوائر، ابعد ماتكون عن ناظريه وبالتالي لايمكن ان تحجب الرؤية عنه.
اضف تعليق