(أميركا أولاً) ليس مجرد شعار انتخابي طرحه دونالد ترامب بل أتضح لاحقاً بأنه عنوان لسياسة يجري تنفيذها خطوةً خطوة، مستهلا تحقيق هذه السياسية عبر البوابة الاقتصادية والحرب التجارية، ويبدو أن هذه السياسة حظيت بقبول مؤسسات صنع القرار والحكم، ولن تقتصر على توجهات الرئيس الأميركي فقط...
يبدو أن (أميركا أولاً) ليس مجرد شعار انتخابي طرحه دونالد ترامب بل أتضح لاحقاً بأنه عنوان لسياسة يجري تنفيذها خطوةً خطوة، مستهلا تحقيق هذه السياسية عبر البوابة الاقتصادية والحرب التجارية، ويبدو أن هذه السياسة حظيت بقبول مؤسسات صنع القرار والحكم، ولن تقتصر على توجهات الرئيس الأميركي فقط.
فالوقائع تُظهر أن مؤسسة الكونغرس ومجمل تشكيلات الإدارة في الولايات المتحدة لم تمانع أو تعترض وتقاوم القرارات التجارية لترامب ضد الصين التي دشنت حربا ذات سجال تجاري بينها وبين أميركا، بعد رفع متبادل للرسوم الكمركية بأرقام غير مسبوقة بينهما، بل دفعت بهذه السياسة ضد روسيا (رغم أن ترامب لا يريد شن تلك الحرب التجارية ضدها لأنه يرغب بإقامة نوع من الوفاق مع روسيا)، مع إعلان الخارجية الأمريكية عن فرضها حزمة جديدة من العقوبات على روسيا، متهمة إياها بإستخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية خلافا للقانون الدولي فيما يعرف بقضية سكريبال تضامناً مع المملكة المتحدة، إذ اضطر ترامب لتمرير تلك العقوبات لأنها تخضع لإجماع المؤسسات الأمريكية الحاكمة على مواجهة الخطر الروسي على أمريكا وحلفاءها.
وكما أسهمت تلك المؤسسات في تعضيد ترامب ضد كوريا الشمالية فيما يخص البرنامج النووي، إضافة إلى دعم قراره التنفيذي القاضي بالإنسحاب من الإتفاق النووي الإيراني المعروف بخطة العمل المشتركة، بل وأيدت فرض عقوبات إقتصادية قاسية ضد إيران، شملت الدفعة الأولى من العقوبات على إيران شراء العملة الأمريكية والتجارة في المعادن الثمينة ولا سيما الذهب، وفرض حظر على قطاع السيارات وعلى صادرات السجاد والفستق الإيراني للسوق الأمريكي.
أما المرحلة الثانية من العقوبات في تشرين الثاني القادم فتهدف إلى فرض مقاطعة شاملة على قطاع النفط ومنع تصديره، مما جعل العملة الإيرانية تتراجع وتستنزف، مع عجز أوروبي وعالمي ومغادرة حوالي مائة شركة عالمية السوق الإيرانية، إذ تراهن واشنطن على التوترات الاجتماعية والغليان الداخلي كي يتصاعد لمحاصرة النظام الإيراني وجره إلى صفقة جديدة تكون فيها واشنطن هي الرابحة.
كما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأسبوع الماضي سلاح العقوبات الاقتصادية ضد تركيا مع إعلان الرئيس الأمريكي عن قرار فرض رسوم كمركية على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم التركي، وفرضت عقوبات مالية ضد وزيري الداخلية والعدل وذلك نتيجة قضية القس الأمريكي المحتجز تحت الإقامة الجبرية برينسون وملفات خلافية أخرى في سوريا وقضية الكُرد فيها وتقاربهم مع إيران وروسيا، معولا على الضغط الإقتصادي لإرغام تركيا للعودة إلى الحضن الأمريكي وفعلا بدأت الليرة التركية تتراجع بسرعة أمام الدولار الأمريكي.
هذا الإدمان الأمريكي على ممارسة العقوبات، ولعب دور الضاغط لتصحيح أساليب الخصوم والمنافسين بما ينسجم مع المصالح الأمريكية، يعد أحد أهم أدوات السياسية الخارجية في عهد ترامب القائم على التهديد وفرض العقوبات التجارية الأحادية من قبل واشنطن المهيمنة على النظام المالي العالمي، وأصبح من الأساليب الناجزة لتطويع الآخرين ومعاقبتهم، ويعد أيضا أهم الأدوات التي تحافظ من خلالها أمريكا على الغلبة والسيطرة على النظام العالمي الذي يفتقد إلى قواعد إدارة الصراع والتعاون الدولي والإقليمي.
ووجهة نظر إدارة ترامب من خوض هذه السياسة الاقتصادية المبنية على الحروب التجارية ومعاقبة حتى الحلفاء، لأن مزايا ومكاسب الحرية التجارية وعدم فرض القيود والرسوم التي تضمنها العولمة أتاحت لدول أوروبا والصين وروسيا ودول أخرى منافسة الإستفادة من الإنفتاح لتعزيز اقتصادياتها الداخلية، وتعزز النفوذ السياسي الدولي والإقليمي لتلك الدول مما يقلص هامش المنافسة ويجعل فرص بقاء (أمريكا أولا وأمريكا الأقوى) في خطر ويعمل على تراجع النفوذ السياسي الأمريكي وفاعليته.
وبالرغم من الإمتعاض من سياسات ترامب فيما يخص الحروب التجارية والعقوبات الاقتصادية داخليا وخارجيا لما لها من آثار سلبية على حرية التجارة، لكن واشنطن من خلال عملتها العالمية الدولار لازالت تملك الأسواق وتتحكم بالإقتصاد العالمي واتضح أن العالم يحتاجها كثيرا، وتبين أن الولايات المتحدة لازالت تمسك بخيوط النظام الدولي وتتحكم بوضع قواعده، مما يؤكد أنها قوة عظمى مهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين، وأن النظريات التي قالت أن العالم أصبح متعدد الأقطاب وبدأ أفول القوة الأمريكية الذي ظهر بعد التعثر الأمريكي في أفغانستان والعراق والآن في سوريا، وعودة الدب الروسي وصعود الإتحاد الأوروبي والصين وكذلك الهند والبرازيل وبروز النمور الآسيوية، لم تتبلور حتى الآن ولا تزال مجرد تكهنات وحديث سياسي وإعلامي.
هذه الإنتقادات والاحتجاجات الصادرة من عدة دول لإدارة ترامب وسياساته لكن يبدو أن أميركا ستبقى لفترة طويلة، القوة التي يدور حولها العالم، إذ تريد أميركا تمرير التغييرات والصيغ التي تريدها على النظام الدولي الحالي وتبقى فيه أميركا زعيمة العالم. ولكن أميركا إذا استمرت بالتعامل مع دول العالم بهذه الكيفية، وتجاوز القواعد الاقتصادية والقانونية المتفق عليها وتجاهلها سيؤدي إلى إندلاع الصراعات والإرتباكات ويدفع دول العالم البحث عن نظام جديد تعمل فيه وفقاً لقواعد متعددة، وتتجاهل أميركا التي تتبنى مبدأ الأحادية.
اضف تعليق