في الوقت الذي دعا فيه نائب برلماني سابق هو وائل عبد اللطيف (محافظ البصرة) عام 2008 إلى إقامة إقليم البصرة دون أن تلقى دعوته آذانا صاغية يعود نائب آخر هو محمد الطائي صاحب قناة الفيحاء المتخذة من كردستان مكانا لمقرّها العام إلى تبني هذه الدعوة بإصرار وعزيمة توحي بوجود رغبة سياسيّة دافعة تقف وراء هذه الدعوة وتمدّها بأسباب القوة والتحشيد المناطقي، فمن يقف وراء هذه الدعوة، وما هو الوجه المخفي منها، وهل أن شعار تهميش البصرة الذي يرفعه الطائي ومن معه عبر قناته صباح مساء يمتلك من المصداقية ما يكفيه للقدرة على استقطاب القوى الشعبيّة المؤثّرة في مدينة الذهب الأسود والزج بها من أجل هذا المشروع الضبابي والغامض؟
سيلٌ من الأسئلة الكثيرة التي لا نصل معها إلى إجابة شافية لما يمثّله مشروع الأقلمة في الوقت الراهن من إشكالات ومخاوف تجعل الباب مفتوحا لكلّ الاحتمالات التي قد تؤدي إليها مرحلة ما بعد الأقلمة في بلد تمزقّه النعرات والتوجهات الضيّقة.
وللإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا بدّ من تشخيص بعض الأمور الجوهريّة التي قد تمفصل هذا الموضوع وتضع بعض النقاط على حروفه الغامضة، وكالآتي:
1- يمكن القول إنّ الغالبية من الشعب العراقي، ولا سيّما أوساط المتعلمين منهم في الوسط والجنوب لا تساند فكرة الأقلمة ولا تطبيقاتها في الواقع العراقي مع ما يزخر به هذا الواقع من خلافات وإشكالات طائفيّة وسياسيّة، وربّما كانت هذه الغالبيّة مقتنعة بنسب كبيرة - كما تشير بعض المواقع الألكترونية المعنيّة - بالدوافع الموجبة لرفض الأقلمة لأنها ترى فيها عنوانا مبطّنا لبداية تقسيم وتشتيت للجسد العراقي الذي ظلّ موحدا منذ تاريخ تأسيس أول دولة حديثة فيه عند عشرينيّات القرن الماضي.
2- أمّا الفئة الأخرى التي حُرمت القدر اللازم من التعليم فهي بالضرورة مقلّدة وتابعة للمرجعيّات الدينيّة التي بدورها لا تميل هي الأخرى لفكرة الأقلمة لأسباب عديدة، ولعلّ بعض المرجعيّات الدينيّة قد أوضحت رأيها بهذا الأمر من خلال فتاوى وتوصيات رسمية عبر وسائل الإعلام المتعددة، وهو ما تحاول قناة الفيحاء ( القناة المعبّرة عن فكرة إقليم البصرة،) مرارا وتكرارا تكذيبه والطعن فيه مع أن هذا الرأي منسوب للمرجعيّة بما لا يقبل الشك أو التكذيب!
3- يرفع دعاة الأقلمة فكرة تهميش البصرة ونسيانها وتجاهل حقوق سكانها (البصريين) من قبل حكومة المركز شعارا لهم مع ما تتمتع به مدينتهم من خيرات وفيرة ومن مياه وموقع وأيدي وإمكانات بشرية لا بأس بها، وكأن المدن الأخرى بما في ذلك بغداد (المركز) قد أخذت فرصتها الحقيقيّة من البناء والإعمار والاهتمام، وهو ما يعني أن دعوى التهميش هي دعوى باطلة، وما هي إلّا شمّاعة تعلّق عليها مآرب ومقاصد شخصيّة وفئوية، خصوصا وإن البصرة شهدت زحفا سكانيا كبيرا من المحافظات القريبة التي قد لا تنطلي عليها لعبة الأقلمة (البصريّة).
4- يذهب دعاة هذا المشروع إلى أن الخلاص الوحيد من سيطرة الأحزاب أو العشائر على حكم البصرة يتم من خلال جعلها إقليما لا يخضع لمركزية معينة شأنه شأن كردستان التي نجحت إلى حدّ ما في انفصالها عن سلطة المركز لأسباب ولشروط معينة، فسعت لتكرار تجربتها ودعمت استنساخها للحد من شبح هيمنة المركز الذي يطارد مخيلة ساستها، وهذه الأسباب والشروط هي ليست الأسباب والشروط ذاتها التي قد تخضع لها ظروف أقلمة البصرة بالتأكيد، فهل أن أحدا يستطيع تصديق فكرة أن فصل البصرة عن الجسد العراقي يحدّ من هيمنة العشائر ويمنع رغبة شيوخها في الاستئثار بالذهب الأسود، أم أن مناطق وجود البترول ستصبح ميدانا للصراعات الدموية المسلحة بين أبناء العشائر من أجل الظفر بإقامة مشيخة خليجية جديدة ينخرها الفساد والمحسوبية والأعراف القبليّة، ولا تمتلك إلّا حق تنفيذ الأوامر والإشارات التي تمليها عليها القوى الكبرى.
5- ما الأخطاء التي وقعت خلال فترة إدارة مدينة البصرة بعد أحداث سقوط البعث منذ عام 2003 وليومنا الراهن، وهل يمكن مقارنة إنجازات هذه الإدارات بإدارة كإدارة البصري الأصيل والنزيه (مزهر الشاوي ) مثلا؟ مع قلة ما تمتع به هذا الرجل –آنذاك- من سلطة ومن مال إذا ما قورن بغيره من رجال الإدارة الحاليين الذين أثرى بعضهم على حساب فقراء البصرة ومعوزيها وراح يوظف أمواله المسروقة والمدخرة في بنوك كردستان حالما بعودة أبديّة للسلطة وللمال تحت مظلة مشروع الإقليم؟ وهو ما يعني إن مشكلة البصرة –كما هو شأن المدن الاخرى- هي مشكلة إداريّة، وقد تتفاقم هذه المشكلة بصورة مرعبة مع التحرر من سلطة المركز ومن متابعاته الرقابيّة.
6- وتأسيسا على ما تقدّم فهل أن الظرف التاريخي مناسب جدا -الآن- لإقامة إقليم البصرة، وهل أن هناك دراسات استراتيجيّة معمّقة طرحت من قبل متخصصين لمناقشة مدى نجاح المشروع ومدى إخفاقه؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه رغبة صبيانيّة أو حلّا سحريا لا ندرى ضخامة عواقبه الوخيمة لا على البصريين وحدهم، بل على عموم العراقيين وأهل المنطقة، لذا نختم بالقول: إنّ الدولة ليست كيانًا يمكن إسقاطه بثورة أو بمطالب شعبيّة، ولكنها حالة أو علاقة معينة بين البشر، أو هي شكل للسلوك الإنساني يمكن التحرر من مركزيتها بعقد علاقات أخرى، وبانتهاج سلوكيات حضاريّة مختلفة قادرة على تقديم بدائل أكثر نجاحا لإسعاد الناس وإعمار البلدان، وهو ما لا نرجح أن دعاة الإقليم وضعوه نصب أعينهم كما وضعوا الجاه والمال والسلطة في حساباتهم.
اضف تعليق