يبدو أن الأدوار التي تقوم بها العوائل والأصدقاء والمتعاطفين مع معتقلي الرأي في السعودية من خلال مقر لجوئهم في كندا في التواصل مع منظمات إنسانية دولية كالأمم المتحدة وأخرى في بلدان غربية مختلفة، يشكل هاجسا بالنسبة لسلطات السعودية، فأصبح هذا الملف يزعج الرياض أمام الرأي...
على خلفية تنديد رئيس الدبلوماسية الكندية باستمرار إنتهاك السلطات السعودية لحقوق الإنسان في المملكة، سارعت الحكومة السعودية بإجراء دبلوماسي سريع تمثل بطرد السفير الكندي من السعودية، وطرد السفراء مسألة دارجة في علم العلاقات بين الدول، ولكن الأهم في تداعيات الخلاف تمهيد الرياض لقطع كامل العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع أوتاوا، والسبب المعلن في قطع العلاقة التجارية مع كندا وفق الحكومة السعودية؛ إن كندا تدخلت في شأن سيادي داخلي من خلال تصريح وزيرة الخارجية الكندية، وحصلت على تأييد مباشر لها من السفير الكندي في السعودية الذي جاء عبر تغريدة له على تويتر: "تشعر كندا بقلق بالغ إزاء الإعتقالات الإضافية لنشطاء المجتمع المدني ونشطاء حقوق المرأة في السعودية"، وطالبت السفارة بالإفراج عنهم فوراً، وعن جميع النشطاء السلميين الآخرين في مجال حقوق الإنسان.
ومجمل التصريح من الناحية الشكلية هو تصريح عادي لا سيما فيما يخص مسألة إنتهاكات حقوق الإنسان في ذات السجل التعسفي، رغم ثبات اوتاوا عليه وتأييده من أغلب دول الإتحاد الأوربي، كما أن هذا التصريح يأتي بعد أيام من صدور التقرير الأمريكي المختص بحقوق الإنسان في العالم، الذي أشار فيه إلى استمرار السعودية بالتضييق على الحريات السياسية والدينية، وكأنما أرادت وزيرة الخارجية الكندية أن تسند تصريحها بهذا التقرير، الأمر الثاني: إن التصريح جاء بصورة مباشرة بعد إعتقال السعودية سمر محمد بدوي شقيقة الناشط رائف محمد بدوي، ضمن حملة الاعتقالات العلنية والسرية تحت عناوين مختلفة، منها محاربة الغزو الفكري، في إشارة إلى ناشطي التيار الليبرالي أو أعضاء من تيارات إسلامية بمختلف توجهاتها (الإخوانية والجهادية) وناشطين ورجال دين من الشيعة، وكذلك طالت الاعتقالات عدد من أقطاب العائلة الحاكمة ظاهرها محاربة الفساد وباطنها يتعلق بالصراع على السلطة وإبعاد خصوم ولي العهد محمد بن سلمان من العائلة الحاكمة.
الإجراء السعودي بقطع العلاقة الدبلوماسية والتجارية مع كندا والذي سرعان ما حظي بتأييد من بلدان عربية حليفه للسعودية كالبحرين والإمارات والسلطة الفلسطينية وبعض دول مجلس الجامعة العربية دون النظر إلى الخلفيات الحقيقية لهذا الخلاف، نرى هناك دوافع تكمن خلفه مما هو أبعد من تصريح وزير أو سفير، هناك تحفظ سعودي إتجاه كندا سبقت هذا الإجراء بفترة، حيث أن السعودية ترى أن كندا تؤدي دورا كبيرا في إحتضان المعارضين والناشطين السعوديين منذ فترة ومنهم عائلة المعتقل رائف محمد بدوي وهو كاتب وناشط في مجال حقوق الإنسان ومؤسس موقع (الليبراليون السعوديون) الإلكتروني سنة 2006، فبحسب موقع ويكيبيديا أن بدوي اشتُهِر بدعوته لإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطالب بمحاكمة رئيسها إبراهيم الغيث في محكمة العدل الدولية وذلك في حديث خاص معه على قناة السي إن إن الأمريكية أواخر عام 2008، وتم إعتقال بدوي سنة 2012 بتُهمة الإساءة للدين الإسلامي من خلال الإنترنت، وأتُهم بعدة قضايا من بينها الردة. حُكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، والجلد 600 جلدة، وإغلاق موقع الشبكة الليبرالية السعودية الحرة، وذلك في 29 يوليو 2013 على خلفية هجومه على الهيئة والمؤسسة الدينية السلفية في السعودية.
وفي 7 مايو 2014 تم تعديل الحكم إلى الجلّد 1000 جلدة، والسَجن لمدة 10 سنوات، بالإضافة لغرامة مالية قدرها مليون ريال سعودي. وبدأ تنفيذ حُكم الجلّد إبتداءا من 9 يناير 2015 أسبوعياً لمدة 20 أسبوع، أعتبرته منظمة العفو الدولية سجين رأي "أحتُجز لا لشيء سوى لممارسته حقه في حرية التعبير عن الرأي بشكل سلمي".
وبالإضافة إلى إعتقال رائف بدوي هناك عدد كبير من المعتقلين بعضهم من رجال الدين ذووا إتجاهات دينية مختلفة كالشيخ حسن فرحان المالكي ممثل المدرسة الدينية الإصلاحية، وعائض القرني وسلمان العودة ممثلي عن السلفية الحركية في السعودية، وهناك ناشطين شيعة بالسجون كالشاب القاصر محمد النمر ابن شقيق الشيخ نمر باقر النمر الذي نفذت به السلطات السعودية حكما بالإعدام قبل عامين.
يبدو أن الأدوار التي تقوم بها العوائل والأصدقاء والمتعاطفين مع معتقلي الرأي في السعودية من خلال مقر لجوئهم في كندا في التواصل مع منظمات إنسانية دولية كالأمم المتحدة وأخرى في بلدان غربية مختلفة، يشكل هاجسا بالنسبة لسلطات السعودية، فأصبح هذا الملف يزعج الرياض أمام الرأي العام العالمي بصورة كبيرة، لذا أوجدت السعودية في تصريح وزيرة الخارجية الكندية فرصة لإيصال رسالة قوية إلى الدول الغربية ومنها كندا، مفاد هذه الرسالة أما السكوت أمام الإجراءات السعودية في الاعتقالات أو إيقاف العمل بالمجالات الاقتصادية والتجارية مع كندا والدول الغربية المشابهة لها، وإذا غابت مصالح المواطنين السعوديين من قبل النظام فالحسابات السياسية حاضرة في تعامل السعودية مع هذه الدول من باب أنها دول لا تشكل أهمية تذكر في مجلس الأمن كالدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي عادة ما تسجل ملاحظات حقوقية على مسائل حقوق الإنسان في السعودية ودول أخرى حتى ما بعد الخلاف السعودي الكندي، حيث قال مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية: "إن الولايات المتحدة طلبت من الحكومة السعودية المزيد من المعلومات بشأن إحتجاز النشطاء، وحثتها على احترام الإجراءات القانونية، لكنها حليف سياسي واقتصادي بالنسبة للسعودية لذا لا تقدم السعودية على أي إعتراض دبلوماسي فج مع الولايات المتحدة".
وبالتالي كندا لا تشكل أهمية في إتخاذ القرارات الأممية العالمية بالنسبة لمصالح السعودية، كما أن السعودية تريد أن تذكر هذه الدول بأنها دولة لديها مشاريع تجارية وإستثمارية ويشكل الطلبة المبتعثين والذين يقدر عددهم بـ15000 طالب يدرس في كندا أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد الكندي، بإمكان كل هذه العوامل الاقتصادية أن تشكل نقطة ضغط من قبل السعودية على كندا، في إنهاء التحريض والنقد الموجه للسعودية في مسائل حقوق الإنسان.
في حين أخرجت تيارات وشخصيات سعودية متطرفة مسألة الخلاف السعودي الكندي عن سياقه السياسي والحقوقي فضلا عن الدبلوماسية وصيروه بإتجاهات أخرى من قبيل القول بالتصادم الحضاري والديني مرجعين ذلك إلى أن كندا تسعى إلى محاربة الإسلام وتغض النظر عن التصرفات المتطرفة التي قام بها كنديون كمقتل ستة أشخاص من خلفيات مسلمة على يد متطرف كندي، ومسألة مراقبة أئمة المساجد لأسباب تتعلق بالإرهاب، ونشر التطرف الديني.
عموما. لا أتصور أن هذه الزوبعة التي أثرتها السلطات السعودية وبعد ذلك جدل المعلقين ممن ينتمون إلى مؤسسات دينية وأكاديمية مختلفة حول موقف الدبلوماسية الكندية من مسائل حقوق الإنسان في السعودية تنسجم وفتح صفحة جديدة مغايرة بقيادة محمد بن سلمان لتلك التي تعارفت عليها السعودية في الحقب الماضية القائمة على الإنغلاق الفكري وتشجيع التطرف بعناوين دينية وفقهيه، إذ يسير محمد بن سلمان مع الخطوات التي أتخذها في المجال الاجتماعي كالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وفتح دور للسينما، ويحاول من خلال ذلك أن يطرح نفسه خصوصا للجانب الأمريكي على أنه رجل غير تقليدي، ويريد تطبيق مشروع اقتصادي، واجتماعي نهضوي، يبني الدولة، ويحارب التطرف السائد هناك من خلال رؤيته الممتدة منذ عامين ولغاية2030، أما بعد كشف السلطات السعودية إجراءاتها بحق منتقديها في مجال حقوق الإنسان فهي لا تسمح بالمعارضة الفكرية والسياسية العقلانية، شأنها شأن أي دولة شمولية، وتزيد بذلك من تناقضاتها في معالجة مشاكلها الداخلية، وما يسبب لها من ذلك المزيد من الإنتقادات الخارجية خصوصا وهي تخوض حرب في اليمن تنتهك فيها القانون الدولي عبر قصفها للمدارس والمستشفيات والأحياء السكنية ويذهب ضحية ذلك أطفال ونساء وشيوخ عزل.
اضف تعليق