اغرب مفارقة سيكولوجية، ان ترامب وفر لنا فرصة استخدام آلية الاسقاط بعزو رذائلنا وعيوبنا وترحيلها اليه، في اتهامنا له بالعنصرية فيما نحن اشد منه طائفية، ووصفنا له بأنه (كريه، حقير، اناني) فيما حكّام الآسلام السياسي أشدّ منه كراهية وحقارة وانانية في علاقتهم بشعوبهم. والمفارقة (الأوجع) ان ترامب قد تصفيه المخابرات الامريكية كما فعلت مع جون كيندي..فيما حكّام الاسلام السياسي امتلكوا السلطة والثروة..والمخابرات!...
يعدّ علم النفس السياسي من افضل العلوم في فهم السياسة لأنه يجمع بين تخصصات متنوعة: علم الانسان، علم الاجتماع، العلاقات الدولية، الاقتصاد، الاعلام والصحافة، والفلسفة. وقد برع فيه عدد من السيكولوجيين الاجانب وعمل عدد منهم مستشارين لكبار القادة السياسيين في العالم. ومع ان السياسة ترتبط بالسيكولوجيا منذ زمن أرسطو، فان دوره في العالم العربي يكاد يكون محدودا لثلاثة أسباب: قلة المتخصصين فيه، وضعف الوعي السيكولوجي بشكل عام، وخشية القادة العرب منه لأنه يكشف حقيقة تركيبة شخصية صانعي القرار.
ومع انه يتداخل مع علم الاجتماع السياسي في الكثير من الظواهر السياسية الاجتماعية، لكنه يركز على دراسة سلوك القادة والحكّام فيما يركّز علم الاجتماع السياسي على دينامية العلاقات بين القوى السياسية في اطار المجتمع.. ومن هذا المنطلق ستكون دراستنا الجديدة هذه عن ترامب..الذي تحول الى ظاهرة ستدخل التاريخ بعنوان (الظاهرة الترامبية).
لم يحصل في التاريخ السياسي الأمريكي ولا العالمي ان يتهم رئيس دولة بامراض نفسية وعقلية، يكفي واحد منها ان يدخل صاحبه مستشفى الأمراض العقلية كالتي اتهم بها ترامب. ولم يحصل ان يتعرض الى تشهير اعلامي واحتجاجات شعبية وحملات مناهضة كالتي تعرض لها رئيس الولايات المتحدة الامريكية الخامس والأربعون، دونالد ترامب..الذي كان (حلما اصبح حقيقة)لعدد من الأمريكيين، فيما كان (كابوسا )لآخرين.
ففي مجال الاعلام، نشرت الصحف الكبرى مقالات مصحوبة برسوم ساخرة شبّهت ترامب بكبار الأشرار في التاريخ، من ضمنهم الداعي للفصل العنصري جورج والاس "صيّاد الساحرات"، وجوزيف مكارثي، وزعيمة الجبهة القومية الفرنسية مارين لو بين، ورئيس الوزراء الايطالي الأسبق سيلفيو بيرلوسكوني.
وكان عنوان مقالات الرأي في صحيفة واشنطن بوست "موسوليني أمريكا المعاصرة"، واخرى نشرت صورة كاريكاتيرية تظهر هتلر قبالة تمثال الحرية وهو يؤدي التحية النازية، فيما نشرت "نيويورك دايلي نيوز" صورة على صفحتها الرئيسة تعرض ترامب وهو يقطع رأس تمثال الحرية، مع تعليق يقول:"عندما لاحق ترامب المكسيكيين لم أنبس ببنت شفة -لأني لست مكسيكيا، وعندما لاحق المسلمين لم أنبس ببنت شفة -لأني لست مسلما..حينها لاحقني.".فيما ذهبت صحيفة(نيويورك تايمز)الى حد اتهامه بـ" التخريف" والأفتقاد للمصداقية (31/1/2107). ومن المفارقات أن هتلر بدأ بمحاربة الأعلام واتهامه بالكذب قبل ان يصبح رئيسا، وكذلك فعل ترامب متهما الأعلام الأمريكي بأنه مظلل ومشوه للحقائق، بل انه وصفه في (16شباط) بأنه "عدو الشعب الأمريكي". ولترامب شيء من الحق في ذلك لأن صحافة الحزب الديمقراطي عملت على تضخيم التشهير به لدرجة انها وصفته بأنه (الوحش الذي هبط على الأرض)، وانه يهدف الى تصفية استقلالية الاعلام المعبّر عن تنوع الحقيقة.
وفي مجال السياسية تعرّض ترامب الى هجوم حتى من كبار السياسيين في حزبه الجمهوري، فلقد علق الزعيم الجمهوري "بول رايان" رئيس مجلس النواب الأمريكي على تصريحات ترامب بأنها غير أمريكية وتنافي القيم المحافظة. وانضم عدد من المرشحين الجمهوريين للرئاسة الى الانتقاد، بينهم السيناتور "ماركو روبيو" الذي تطرق الى اسلوب ترامب "بإطلاق تصريحات مهينة وهمجية"، وحاكم ولاية فلوريدا السابق "جيب بوش" الذي وصف اقتراح ترامب بمنع دخول السائحين والمهاجرين المسلمين الى الولايات المتحدة أنه "مختل". وخاطب المرشح الجمهوري، السيناتور "ليندزي غراهام" من كارولينا الجنوبية في قناة CNN : "قولوا لدونالد أن يذهب الى الجحيم". فضلا عن زعماء في الحزب الديمقراطي مثل "هيلاري كلينتون" التي غرّدت عبر تويتر "قولوا لدونالد ترامب: الكراهية ليست قيمة أمريكية". ومجمل هذه المواقف السياسية من ترامب تذكّرنا بما حصل للرئيس الأمريكي "نكسون" الذي اجبره الكونغرس والقضاء على تقديم استقالته بسبب فضيحة ووترغيت.
وفي ترامب صفة ينفرد بها عن باقي الرؤساء الأمريكيين هي صراحه متناهية منحته الكثير من الشعبية. ففي احتفالية عيد الجيش الأمريكي، اتهم القادة والجنود الأمريكيين بسرقة أموال تقدر بالملايين من الدولارات من العراق، عثروا عليها في اقتحامهم القصور الرئاسية والمصارف الحكومية، ودعا الى الكشف عنهم.
ومع انه ملياردير فهو يتصرف كما لو كان بطلا شعبيا وصار محبوبا من معظم الفقراء، وهي حالة يرتاح لها جدا لأن من طبيعة الشخصية المسيطرة انها تستمتع بطاعة الآخرين واحترامها لها، وتحقق في الوقت ذاته معادلا سيكولوجيا في استمتاع الفقراء بالتماهي بشخصية من يعدونه بطلا..فضلا عن ان تمرّد على الاسلوب الكلاسيكي الذي اعتاد عليه من سبقوه. وهو يفهم في الشأن العراقي، بعكس ما اشيع عن جهله بالسياسة.. اذ صرّح قائلا: أمام القادة العراقيين ثلاثة خيارات: البقاء على حالة العنف، أو تقسيم العراق الى ثلاث دول، أو اللجوء الى مبادرة شاملة للسلم الأهلي يتفقون عليها، مرجحا الخيار الثالث لكونه يمثل رغبة أغلب العراقيين.
على ان اهم ما تتصف به سياسة ترامب هي انها ادخلت العالم في سكولوجيا التوقعات المتضادة. فعلى صعيد الوضع المعقد في الشرق الأوسط هنالك فريق متفائل وآخر متشائم ناجم عن غموض سياسته، باستثناء وضوحه بمنع مواطني سبع دول اسلامية من دخول الولايات المتحدة. وكان هذا القرار قد اتخذه استجابة لرأي عام لحماية الأمن الأميركي، غير انه ادى الى انقسام في المجتمع الأمريكي تصدرتها جماعات كبيرة رأت في ذلك الأجراء مخالفة للمبادئ الأمريكية الدستورية وجوبه بموجة واسعة من الانتقادات والتظاهرات داخل اميركا وخارجها، وحتى من الأمم المتحدة التي وصفت سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط بأنها " مشوشة ومقلقة". ولأن شخصية ترامب من نوع التسلطية الاستبدادية التي تتخذ قراراتها بسرعة، وقد وصف وزير العدل في الأدارة المحلية بواشنطن- "بوب فيرغسون" بأن مرسوم ترامب كان خاطئا ومتسرعا وخطيرا، فان قراره هذا الذي كان يظن انه سيؤدي الى توحيد الشعب الأمريكي أدى الى مزيد من التقسيم. وبرغم ذلك فانه لن يتراجع عنه، لأن كارزما شخصيته تعدّ التراجع ضعفا حتى لو كان عن خطأ!،ولأنه لاشيء يزعجه اكثر من ان يشك احد في قوته ونفوذه(Power )وسلطته وسيطرته Dominance)).
وترامب لا ينتمي الى مدرسة فكرية محددة، فلا هو محسوب على مدرسة المحافظين الجدد (Conservatives)ولا المحافظين الجدد Neoconservatives))، ولا الليبرالين الجدد(Neoliberals) ولا أية مدرسة فكرية أخرى واضحة المعالم. فهو كان ناخبا مسجلا مع الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري وأحزاب أخرى، بما يجعلك تستنتج بأن مدرسته الفكرية هي تجربته الحياتية.. وفي هذه الظاهرة الجديدة في السياسة الأمريكية مجازفة كبيرة.
غير ان اخطر مشاكل ترامب النفسية انه يعاني من عقدة (اسلاموفوبيا). فقد صرّح من القاعدة الاميركية العسكرية في الشرق الأوسط (ان الارهابيين الأسلاميين عازمون على ضرب بلادنا كما فعلوا في هجمات 11 سبتمبر)،معلنا عمليا طي مرحلة "القوة الناعمة"، وانه لن يكون طيبا مثل باراك اوباما ،متهما ايران بأنها "اكبر داعم للأرهاب"،متعهدا بالتحالف مع "العالم المتحضر" لمواجهة "ارهاب الأسلام المتطرف وازالته من على وجه الأرض". ووزع البيت الأبيض لائحة بـ( 78) هجوما في العالم من 2014 لغاية 2016 نسبها الى الارهاب الاسلامي المتطرف.
وترامب المتأثر بأفكار "ستيفن بانون"،الذي ينظر للعرب والمسلمين بانهم متناقضون جذريا مع الثراث المسيحي اليهودي المشترك ومع الحضارة الامريكية، سيعتبر كل عمل ارهابي يقع في العالم مبررا للعقوبات الموجهة ضد المسلمين داخل الولايات المتحدة وخارجها. وهو في سريرته يحمل ضغينة ضد الاسلام ويعتقد ان كل مسلم يسعى للنيل من اميركا، فيما هو متعاطف مع اليهودية لدرجة انه لم يعترض على اعتناق ابنته الدين اليهودي بعد ان تزوجت من يهودي وصار له شأن كبير في ادارته. وسيكولوجيا ايضا فان ترامب يشعر بالحيف ويريد ان يقتص من قتلة الامريكيين في طهران وبيروت، وانه في داخله يرفع شعار (يالثارات أميركا!).ولقد تعرض ترامب الى انتقادات شديدة على موقفه هذا يلخصّها تعليق وزيرة الدفاع الألمانية بقولها "ان الحرب على الأرهاب يجب ان لا تكون موجهة ضد الأسلام"..ما يعني انه يخلق ازمات لنفسه ستعيق تحقيق شعاره (Make America Great Again) ،وتفضي به الفشل.
ان طموحاته التي حققها في مجال الاقتصاد دفعته سيكولوجيا الى ان يتبنى مشروع احياء دولة كبرى في (امبراطورية) تضاهي امبراطوريته الأقتصادية. ولأن العناد من ابرز طباع شخصيته، ولأنه تعلم الأصرار على المضي نحو الهدف من قدرته على تجاوز اخفاقاته..فانه قد يمضي في مشروعه الذي سيفشل فيه لأن زمن الأمبراطوريات قد انتهى اميركا).
غير ان اغرب مفارقة سيكولوجية، ان ترامب وفر لنا فرصة استخدام آلية الاسقاط بعزو رذائلنا وعيوبنا وترحيلها اليه، في اتهامنا له بالعنصرية فيما نحن اشد منه طائفية، ووصفنا له بأنه (كريه، حقير، اناني) فيما حكّام الآسلام السياسي أشدّ منه كراهية وحقارة وانانية في علاقتهم بشعوبهم. والمفارقة (الأوجع) ان ترامب قد تصفيه المخابرات الامريكية كما فعلت مع جون كيندي..فيما حكّام الاسلام السياسي امتلكوا السلطة والثروة..والمخابرات!...
اضف تعليق