إن خلق حالة التشاؤم والخذلان في النفوس هي التي تجعل الناس يشاهدون حالات الفساد والهدر والانحراف يومياً ولا يفعلون شيئاً لتغييره، ولسان حالهم: \"ماكو فائدة\"، أو \"لا يعنيني الأمر\". بينما لو تظاهر اثنان او ثلاثة مواطنين فقط في دوائر الفساد وهدر الوقت والكرامة الانساينة...
في أمواج الفتن والاضطرابات والازمات، يبدو الحديث عن الأمل والتفاؤل واللاعنف، وكل ما يدعو الى الهدوء والأناة، أشبه ما يكون حقنة للتخدير لعدم الشعور بألم الواقع لفترة من الزمن، انما المطلوب – بتصور البعض- الاندفاع بقوة للضغط على المواجع والحديث عن المشهد السلبي من أبسط حالة او اكبرها، وعندما ينقد البعض الآخر هذه الحالة المنفعلة، يأتيه الجواب: "انها الحقيقة"! وقد ساعدت تقنية الاتصال السريع والمجاني متمثلاً بمواقع التواصل الاجتماعي على ترسيخ ظاهرة النشر السلبي بعيداً عن أي بدائل ايجابية وحلول ناجعة.
طبعاً؛ النوايا الكامنة في نفوس المنتقدين والثائرين على الاوضاع السيئة في بلد مثل العراق، ايجابية من حيث المبدأ، فهم يرغبون بأن تؤدي انتقاداتهم الى تغيير هذه الاوضاع الى الأحسن، فعندما يتكلمون بالارقام عن الفساد والفاسدين، وبشكل مستمر فان هؤلاء سيتخلون عن فسادهم ونهبهم لخيرات البلاد خشية الفضيحة وسوء السمعة! او من ينشر مقاطع لسياسيين وهم يتحدثون عن الفساد الذي يرتكبوه هم انفسهم، او عن الخروقات الامنية الرهيبة التي حصلت طيلة السنوات الماضية، فان كل هذا وغيره سيؤدي الى إزالة كل الثغرات ويعيش الناس بأمان ورفاهية، بيد أن الحقيقة الاخرى في المقابل،والتي أكد عليها خبراء وعلماء نفس، - وقد أشرنا اليها في مقالات سابقة- إن الاكثار من نشر السلبيات على اكبر مساحة ممكنة من المجتمع من شأنه حصول حالة من الاستمراء لهذه السلبيات، وعدّها أمراً واقعاً وطبيعياً، كما حصل في غير بلد، أضطرت فيها الجهات العنية بوسائل الاعلام الى غلق بعض الصحف والمجلات المختصة بأخبار جرائم القتل والسرقة وفضائح الجنس وغيرها مما يثير الفضول وحب الاطلاع عند الكثير، وهي حالة نفسية واضحة.
فهل ياترى تحقق شيء من كل هذا من خلال هذا الاسلوب غير المكلف والسهل؟
يكفينا المقارنة بين مناشئ الفاسد وكيفية نموه واستفحاله، وبين التنظير والتشطير بكلمات الانتقاد لهذه الظاهرة او تلك، فالفساد المالي والاداري ومختلف اشكال الانحرافات انما تنشأ وتنمو ثم تنتشر بجهود اصحابها الباحثين عن المال والجاه وجريهم هنا وهناك للتزلف الى اصحاب المقامات الرفيعة أملاً في التسلّق والوصول، وربما يحتاج الامر لسنوات حتى نجد نكتشف بيننا موظفاً او مديراً بلغ مراتب عليا من الفساد من الصعب الوصول اليه والتأثير عليه بفضيحة او خبر او كلمة، لان ببساطة؛ المراتب والقمم هذه، انما تقوم على قواعد من نفايات الرذائل والصفات اللااخلاقية واللاانسانية المنتشرة في المجتمع، فالفساد لن يكون معلقاً في الهواء قطعاً.
إن الذي يتحدث عن انقطاع الكهرباء ربما يكون من بين الذين يسددون تعرفة الكهرباء الى قسم الجباية في دائرة الكهرباء بمنطقته، وهو أمر حسنٌ أن يطالب الانسان بالمزيد من الرفاهية وألا ينقطع التيار الكهربائي لحظة واحدة، وهو أمر غير مستحيل في بلد مثل العراق. ولكن؛ اذا وجد جاره، او ربما جميع البيوت في زقاقه، يسحبون التيار الكهربائي من العمود الرئيسي من دون ترخيص ولا اشتراك ولا يدفعون ديناراً واحداً إزاء ما يستهلكونه، فهل يطرق الباب على أحدهم ليذكرهم بأنهم يدفعون لصاحب المولدة شهرياً لطاقة كهربائية ضعيفة، بينما لا يدفعون للحكومة كل شهرين لطاقة عالية تشغل جميع مستلزمات البيت، وإن كانت لساعات معينة؟
ومأساة اخرى نعيشها كل يوم ونراها بأم اعيننا في مسألة الماء العذب الذي يتحسّر عليه العالم، ففي كثير من الازقة والشوارع نلاحظ انفجار انبوب صغير او كبير ثم فيضان المنطقة بالماء لساعات طوال، وربما يستمر لايام، وأهل المنطقة يمرون على المنظر كأن شيئاً لم يحصل، ولا يكلف شخصٌ نفسه بالسؤال – على الاقل- عن سبب هدر هذا الماء الغالي. ثم نسمع من يتحدث عن أزمة مياه الشرب في هذه المدينة او تلك.
إن خلق حالة التشاؤم والخذلان في النفوس هي التي تجعل الناس يشاهدون حالات الفساد والهدر والانحراف يومياً ولا يفعلون شيئاً لتغييره، ولسان حالهم: "ماكو فائدة"، أو "لا يعنيني الأمر". بينما لو تظاهر اثنان او ثلاثة مواطنين فقط في دوائر الفساد وهدر الوقت والكرامة الانساينة، على سوء تعامل الموظف او حتى المدير، لرأينا كيف تشهد هذه الدائرة التحول والتغيير، فالموظف الحكومي يعلم إن فساده وطغيانه لن يكون محميماً من القانون، وإنما مضموناً بسكوت المراجعين، هذا إن لم نقل بتشجيعهم له من خلال ما يمارسه البعض –للأسف- من إعطاء الرشوة وتجاوز حقوق الآخرين بفضل الوساطات والصداقات وغيرها.
نحن بحاجة الى ثقافة الأمل التي تصلح وتبني، لا ثقافة التشاؤم واليأس التي تؤدي الى الصدام والانتقام ثم الدمار، يكفينا مراجعة بسيطة لحقائق انفسنا وذواتنا وما نحمله من طاقات ايجابية للإسهام في الاصلاح والتغيير انطلاقاً من الزقاق الذي نعيش فيه، والشارع الذي نسير فيه، والمحلات التجارية والاسواق والدوائر الحكومية التي نتعامل معها.
ومثالنا؛ ذلك الرجل البابلي (الحلاوي) الذي ظهر في مقطع فيديو وهو يسوي حفرة وسط الشارع بمدينة الحلة، رغم كبر سنّه، فهو يحمل التراب بيده ويملأ به المناطق المخسوفة في الارض، ثم يرشها بالماء لتسير السيارات بانسيابية، ألم تكن لهذا الرجل المتعب والطاعن في السن، مشاكل وازمات في حياته؟ وهل يعني بعمله هذا تبرئة الحكومة والدوائر المعنية بإصلاح الشوارع المليئة بالمطبات والحفر؟
إن رسالة هذا الرجل وغيره، موجهة الى المواطنين قبل المسؤولين، بأنهم الأقدر على الاصلاح والتغيير، فعندما يكونوا كذلك بالقطع واليقين لن يتولاهم الفاسد والمخرب والمنحرف.
اضف تعليق