q
ما حصل مؤخرا من أوضاع احتجاجية في البصرة والنجف ومناطق أخرى، ناتجة عن مركب من أوضاع سوسيو سياسية وثقافية متعدد الأبعاد والدلالات، وحصيلة تراكم كمي ونوعي للكثير من المؤثرات والعوامل والظروف والتفاعلات المعقدة والمأزومة، وأعطاب واختلالات وممارسات سياسية لا عقلانية، وهو واقع يبرز مدى دقة...

ما حصل مؤخرا من أوضاع احتجاجية في البصرة والنجف ومناطق أخرى، ناتجة عن مركب من أوضاع سوسيو سياسية وثقافية متعدد الأبعاد والدلالات، وحصيلة تراكم كمي ونوعي للكثير من المؤثرات والعوامل والظروف والتفاعلات المعقدة والمأزومة، وأعطاب واختلالات وممارسات سياسية لا عقلانية، وهو واقع يبرز مدى دقة المرحلة وحساسيتها، الأمر الذي يفرض على النخب السياسية والثقافية والاجتماعية وكل الفاعلين في الحراك المجتمعي المحلي بذل المزيد من الجهود لتجاوز احباطات اللحظة وتعثراتها وتداعياتها السلبية، وفتح ماهو ممكن ومتاح من آفاق النظر والعمل من أجل الإصلاح والتغيير، وإعادة التأسيس والبناء لعمل سياسي وحكومي منتج وفاعل.

ولهذا فإن هنالك عدة أسباب متداخلة كانت بمثابة دلالات وأبعاد لهذا الحراك المطلبي يتمثل بالآتي:

1- تدني مستويات العيش وبروز مؤشرات الفقر والتهميش، وتراجع كفاية الدخل الفردي وتدهور القطاعات المرتبطة بالحياة: كالكهرباء والماء والتعليم والصحة والسكن والعمل والبطالة والأحساس بالتفاوت الطبقي مع القوى السياسية من حيث المحسوبية والامتيازات والنفوذ.

2- تفشي ظاهرة الفساد بأشكاله وعوامله وامتداداته كافة، والتي تعدت المجال المؤسسي والإداري إلى الفضاء المجتمعي والعمومي، وانتشار الرشوة والمحسوبية والوساطات والولاءات الإنتفاعية والوصولية وسوء الإدارة والحكم، واستغلال السلطة والنفوذ وتبديد المال العام ونهب ثروات المجتمع بلا مبرر.

3- اعطاب واختلالات أساليب وآليات العمل في المؤسسات إذ لازالت الآليات تقليدية تفتقد للحكام المدبرين للشأن العام، وحتى حينما نستعين بطرق حديثة وتقانة متقدمة تكون النتائج عكسية، مثلما حصل بأجهزة العد والفرز الإلكتروني وغيرها من الأمثلة في دوائر الدولة.

4- التكالب على السلطة وضعف تأثير المواطن في صناعة القرار السياسي الذي دفع إلى العزوف عن المشاركة الإنتخابية ثم الحراك الاحتجاجي، كما لم تقدم الأحزاب السياسية أي برامج عمل وإصلاحات حقيقية مع تلكأ المشاريع التي تطرح كالتسوية الوطنية أو مواثيق الشرف أو حملة مكافحة الفساد أو الحكومة الإلكترونية وغيرها من الأطروحات النظرية التي لم تطبق على أرض الواقع.

5- يجب أن نستحضر دور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من دور سلبي في بث الإشاعات وتوتير الأجواء سواء بالنقد الحاد والتحريض على النظام العام بشكل غير محايد أو دقيق، رَسَم صورة سلبية على العموم لدى الرأي العام عن الأخطاء والأزمات بشكل فج ومفضوح يدفع للتحرك والاحتجاج. وبذلك لعب الإعلام السلبي دور في تحريك مشاعر وحالات اليأس والإحباط لدى المواطن، وبالتالي عزز مسارات الاحتجاجات والتظاهر والكراهية لكل ماهو سياسي.

6- لا يمكن إغفال العوامل الخارجية المرتبطة بالمحيط الإقليمي للعراق عما يحصل، خاصة ما جرى من حالات تخريب لمدسوسين من أجل حرف الاحتجاجات وتعميق الأضرار، كذلك وجود قوى محلية ترتبط بتلك الأجندات من مصلحتها كسب معطيات مابعد الانتخابات، وأن تكون الأجواء مشحونة بهذه الحيثيات، ومن مصلحة تلك الدول أن يتضرر الشريان الاقتصادي والمؤسسي للعراق.

هذه الدلالات لها أبعاد خطيرة على مستوى الاستقرار ومواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية المتراجعة وأهم هذه الأبعاد:

1- لا يمكن تحقيق شعار الإصلاح إلا في إطار قطيعة سياسية واجتماعية وعملية مع كل مظاهر الفساد المُكرس والممنهج والذي تعتبره الطبقة السياسية أداة جوهرية لفرض السلطة والنفوذ على المجتمع.

2- غياب كامل لأي برنامج أو مشروع وطني يطمئن إليه العراقيين، قادر على تحديد الأولويات والرهانات وتحقيق المصلحة العامة.

3- المواطن أصبح الدعامة المفصلية في صدارة المشهد السياسي وليس الأحزاب وقادتها فقط، كما أن له دور فاعل في السياسة وليس مغيب ومهمش كما تريد القوى السياسية، ورغم موسمية الاحتجاجات واستهدافها لمحاور محددة إلا أنها سرعان ما تكون عامة وعفوية تنشد الإصلاح وهذا يضع القوى السياسية بامتحان إشراك المواطن في صناعة القرار مهما كان ذلك مخالفا لتوجهاتها ومصالحها.

4- أدركت الأحزاب السياسية إنها تعيش مستجدات زمن أصبح فيه تشكيل الرأي العام وتوجيه المشاركة وبناء القيم والإتجاهات والمواقف والأحكام بمثابة صناعة أو هندسة اجتماعية مرتبطة بخيارات المواطن واستحسان المجتمع، لذلك لابد من اعتبار السلطة خادمة لا حاكمة للمواطن. ولهذا باتت عملية الإستجابة لمطالب المحتجين والدخول بعملية إصلاح سياسي حقيقي استحقاق لا يمكن تأجيله يتحقق عبر البدائل الآتية:

1- إعادة تأهيل الحقل السياسي وإصلاحه لمواكبة مطالب المحتجين من حيث الإدارة السليمة والحكم الجيد الممانع للفساد بكل أشكاله، وهذا يحتاج شجاعة التخلي عن الفاسدين داخل الأحزاب السياسية ومحاسبتهم.

2- تشكيل أقطاب سياسية مرجعية مستقلة تعتمد على الكفاءة والمهنية والاستقلالية يسمح لها بطرح برامج ومشاريع حقيقية نابذة للإقصاء والتهميش والخضوع للحسابات السياسية الضيقة.

3- الإسراع بالتئام البرلمان الجديد وتشكيل حكومة قوية متماسكة يكونان قادران على احتواء مطالب المواطنين في ظل آليات عمل ديناميكية سياسية فعالة ومتواصلة تؤدي ما عليهما من واجبات تشريعية وتنفيذية وامتلاك زمام المبادرة والحلول والبدائل.

4- طرح حزمة إصلاحات عاجلة تتلافى المسببات التي تم ذكرها، تشمل بنيات وهياكل الحقل الخدمي والاقتصادي وفق خطط تنموية مدروسة تتحاشى تكرار الخطط الفاشلة والبيروقراطية المريرة وعدم الدوران في الحلقات المفرغة لكي تتم مواجهة إكراهات الفقر والتخلف ورداءة الأداء الإنجازي.

في النهاية يعلم العراقيون أن طبقتهم السياسية الحاكمة لا تستثمر اللحظات الإصلاحية بل عُرفت بضياع فرص الإصلاح وتجديد القواعد التقليدية وإستعارتها لآليات اشتغال النظام القديم وإبرام صفقات تواطئية والترويج لمقولات الخوف من الإرهاب وعودة الطائفية واتساع المخاوف وبالتالي ضياع كل لحظة تغيير وإصلاح.

نقول أخيرا، إذا لم تبتكر القوى السياسية أسلوبا جديدا للحكم والتدبير الصالح والرشيد واستحضار سيناريوهات التغيير والاستبدال الجاد ستستبدل السيناريوهات السلمية المطالبة بالتغيير والإصلاح والحقوق بسيناريوهات العنف والإختيارات الراديكالية التي تدق ناقوس الخطر المنذر بتبعات وآثار سلبية خطيرة على مستوى النظام السياسي والاجتماعي في ظل شعب لازال يتطلع إلى معانقة الديمقراطية وإفرازاتها الإيجابية، وقد نعود إلى سلبيات المراحل الديكتاتورية السابقة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق