كان تركيز القوى السياسية في عراق ما بعد 2003 هو تحجيم الحريات العامة والشخصية بشكل غير مسبوق، وظلت تداعيات هذه الاجراءات تعتمل في نفوس الناس الذين يريدون نمطا اخر لحياتهم، او النمط الذي اعتادوه لقرون ولايريدون ان يفقدوه.
قرات مثلا شعبيا، لااعرف أي بلد يستخدمه، يقول؛ (اقبح انواع الفقر، ان يفتقد المرء روح المرح) .. وقد وجدت فيه دقة كبيرة في قراءة النفس البشرية، وحاجتها الى المرح، الذي يعد احد اقوى الاسلحة في مواجهة قبح الحياة ورزاياها، وان اعظم مآسي البشرية عبر التاريخ، امتصتها روح المرح، التي يصنعها اناس لهم المقدرة على قتل السأم او تذويبه، لان الانسان اذا ما فقد روح المرح التي ترطب اعماقه، بات هشا نفسيا، وعرضة لان تخترقه ابسط انواع الكآبة وتكبله اسهل المشكلات التي تواجهه. ولذلك فالفن باشكاله المتعددة، على الرغم من انه يطهّر النفوس في محاكاته للألم وقضايا الحياة، فانه ايضا يمنحها شيئا من المرح، الذي تحتاجه الناس، وتهرب من خلاله الى عوالم جمالية متخيلة تشبع الروح وتجعلها اكثر انشراحا وتوازنا.
الشيء الذي بقي مسكوتا عنه في حياة العراقيين، بعد 2003 انهم فقدوا او افقدوا الكثير من روح المرح، لاسباب عدة، اهمها ثقل الهموم التي توالت عليهم بفعل الارهاب وتداعيات الاحتلال، والوضع المعاشي الصعب نتيجة الازمات المتلاحقة. لكن العامل الابرز في كل هذا، ان نمط الحياة الاجتماعية في العراق تغيّر بشكل كبير وقسري، بعد ان فرضت بعض القوى النافذة ثقافات، لم يعتدها العراقيون، او لم يكونوا مستعدين للتفاعل معها. ثقافات الغت روح المرح والبهجة وحاربتهما بشكل يومي، حتى باتت مدن البلاد، لاسيما الجنوبية، يغلفها الصمت بشكل دائم، خلافا لما كانت عليه حياة العراقيين التي ظلت لقرون، تتجاور فيها الثقافات المختلفة وتملأ الحياة بتنوعها وثرائها .. فمنذ العام 2003 لم تشهد مدن الجنوب حفلا غنائيا عاما، وظلت الفنون الاخرى تمارس بخجل، وفقدت الحريات العامة والشخصية الكثير من تفاصيلها المألوفة، الامر الذي خلق حالة احتقان صامت، اخذ يتفاقم مع الاعوام، وقد رافق ذلك فساد المسؤولين الذي نخر الدولة واشاع الجدب وافقر الغالبية، ليضاف هذا الفقر المادي الذي تسببوا به الى الفقر الاقبح، أي غياب روح المرح، التي كانت تصنعها وتغذيها في المجتمع الحكومات المتعاقبة عبر العصور، وتعبر بها الازمات التي تتعرض لها، قبل ان يتحول غياب المرح الى ازمة بفعل الثقافة المفروضة على حياة الناس في هذه المرحلة.
قد يرى البعض ان هذا الكلام بعيد عن الواقع، او ان الازمة اكبر من كل هذا، ونقول نعم، هذا صحيح تماما، ونحن غير بعيدين عن ازمات بلادنا ومشاكلها، لكن الصحيح ايضا، ان نمط الحياة الاجتماعية في مدن الجنوب العراقي تغير بشكل كامل، ولم تعد ملامح الحياة السابقة موجودة. وان ممارسات بعض القوى النافذة، وفسادها ونهبها المال العام خلق حالة ارباك في ذهن المواطن هناك، وجعلته مهيئا لرفض هذا الواقع الذي يرونه يضج بالنفاق وباسم محاربة النفاق!
لقد حدثت الكثير من الثورات والاحداث في العالم، وتغيّرت الكثير من الانظمة والقوانين، لكن القائمين عليها حافظوا على نمط الحياة الاجتماعية للشعوب، وظلت الحريات الشخصية مصانة، لان هذه من خصوصيات الفرد التي تعمل الدول والحكومات على اغنائها، فمهمة الدول اسعاد شعوبها وليس التحكم بامزجة مواطنيها، وفرض النمط الذي يراه هذا الحاكم او ذاك المسؤول. بينما كان تركيز القوى السياسية في عراق ما بعد 2003 هو تحجيم الحريات العامة والشخصية بشكل غير مسبوق، وظلت تداعيات هذه الاجراءات تعتمل في نفوس الناس الذين يريدون نمطا اخر لحياتهم، او النمط الذي اعتادوه لقرون ولايريدون ان يفقدوه.
اضف تعليق