يبقى مصير هذا النوع من الأنظمة متأرجحا بين سياسة القمع الفاشلة من جهة، وبين ضغط الشعب وقواه الفاعلة والضاغطة باتجاه إطاحة بنية النظام القمعي السياسية، لذا لا يمكن أن يستمر هذا النوع من الأنظمة في مواصلة الحكم، وسيكون في مواجهة خاسرة في جميع الأحوال، حيث يكون مآله التآكل والتساقط والانهيار كونه لم يعد مقبولا أو متناغما مع روح العصر الراهن...
كلما تقدم العالم خطوة نحو الديمقراطية، تظهر دلالات على انبثاق أنظمة قمعية في لباس ديمقراطي، وهذا مؤشر يدل على تخبط النظام السياسي العالمي، وبقاء الاستبداد كملمح لا مفرّ منه على الأقل في عصرنا الحالي، لكن هذا لا يعني انتفاء الرغبة والتطلعات الكبيرة نحو الحرية، لأنها هي الأنسب للبشرية على وجه العموم، فالأنظمة السياسية تنقسم بشكل عام إلى نوعين، أنظمة ديمقراطية منتخَبة، وأخرى لا تعترف بسلطة الشعب، فتحكمه بالحديد والنار، وغالبا ما يكون رأس النظام حاكما يختصر الشعب والبلد كله في شخصه، فيكون قراره الفردي هو الذي يمشي على الجميع كقائد أعلى، يسانده في تشديد القبضة الحديدية أفرد معاونون ومؤيدون ومؤسسات شكلية مؤيدة لهُ ومستفيدة منه، مع دستور مفبرك جميل المظهر لكنه لا يقدّم شيئا للشعب ولا يضمن الحريات والآراء والحقوق، كونه كُتِب بأقلام مأجورة من قبل النظام نفسه.
أنواع الأنظمة الديمقراطية متعددة منها النيابية غير المباشرة، والنيابية المباشرة، والرئاسية كما هو النظام السياسي الأمريكي، ولكن تكون المؤسسات المستقلة في هذا النظام قوية وفاعلة، وتتمكن من وضع حد للقمع أو تضخم الذات الحكومية المتسلطة، فيكون جميع المسؤولين من أعلى منصب نزولا تحت سيطرة القضاء المستقل، وهذه الميزة من أعظم وأهم ما تتحلى به النظم السياسية الديمقراطية القائمة على احترم رأي الشعب وحماية الصوت المعارض، وبهذا تكون الأنظمة السياسية الديمقراطية أطول عمرا من الأنظمة التسلطية الفردية التي تعتمد القمع أسلوبا لحماية نفسها.
النظام الشمولي والنهاية المحتومة
لذلك هناك علماء في السياسة أثبتوا بأن النظام الشمولي ينهي نفسه بنفسه، لأسباب عديدة يقف في المقدمة منها أسلوب القمع الذي يتعامل به مع المناوئين له، وضربه للآراء المعارضة له، ويرى أحد الكتاب ان المرحلة الأولى من عمر النظام الشمولي تكون إيديولوجية، بمعنى إن النظام ينبني فيها انطلاقاً من «ترسيمة مغلقة» تحدد ماهيته وطابعه ونمط إنتاجه المادي والمعنوي وإشكال اشتغاله وآليات عمله ومصالحه وحتى نمط زعامته، ويضيف أيضا: في هذه المرحلة، التي تكون الايدولوجيا فيها المنطلق والمعيار، ينفرد حزب أو تنظيم سري بمطابقة الواقع الجديد مع ما فيها من رؤى وخطط يجب أن يتشكل على صورتها ومثالها، الأمر الذي يجعل النظام الإيديولوجي منبع النظام الشمولي ومصدره الوحيد، ويضفي القدسية على أفراده وخاصة القياديين منهم، الذين يتحولون إلى كائنات فوق بشرية، معصومة وطهورة، لا يجوز المسّ بها أو انتقادها في أي ظرف أو حال، بما أنها تنفرد بمعرفة مفاتيح هذه الايدولوجيا وإسرارها، حيث تكمن صورة الواقع المسبقة والنقية، ويتجسد نظامه المنشود في حملتها وما يصدر عنها من أقوال وأفعال.
هذه القداسة المبالغ بها التي تُعطى للقادة الحكوميين وأولهم القائد الأعلى هي نفسها ستكون السبب الأكبر في انهيار النظام السياسي القمعي، لسبب واضح مفاده أن تركيز السلطات في شخص القائد الأعلى، وحرمان الشعب من حقه الشرعي في تحديد الأنسب لقيادته، مع التركيز على تغييب الرأي الآخر ومحاصرته وإقصائه وربما يصل الأمر في ظل الأنظمة السياسية القمعية إلى التصفية والاغتيال والتعذيب وما شابه من أساليب، يظن النظام ورأسه بأنه الأقدر على حماية الكرسي، لكنه لا يفهم ولا يريد أن يعرف بأن القمع هو الذي سيعجّل بسقوطه المحتوم، لأن النظام السياسي الشمولي بحسب الوقائع السياسية المرصودة، واستنادا إلى الكاتب نفسه يعاني من أزمة شاملة تتجسد في أمرين خطيرين هما عجز الايدولوجيا عن إيجاد علاج من داخلها وبأدواتها للمشكلات التي تحققها في النظام الجديد، الذي يكون شمولياً بالضرورة، من جهة، وتحول الشمولية من وعد إلى كابوس، نتيجة غياب الدولة والمجتمع المتعاظم عن نظامها وانقلابها إلى بنية فوقية تعمل وفق معايير أوامرية أحادية الاتجاه، تنزل من فوق إلى تحت، حيث البشر أدوات يتم تحريكهم في المنحى المطلوب، يكون التحكم فيها أكثر سهولة وتلبية لمصالح النظام العام، بقدر ما تتلاشى إرادتها وتموت حريتها، من جهة أخرى.
الأنظمة القمعية إلى أين؟
بكلمة أخرى تقوّض الشمولية الدولة والمجتمع، فلا يبقى من حامل لمشروعها غير سلطة يزداد طابعها الإكراهي إلى أن يصير هويتها الوحيدة ومركز إعادة إنتاجها واستمرارها، ولأن هذه السلطة تلغي بصورة متعمدة ومتعاظمة أساسها المجتمعي، فإنها تتحول إلى بناء معلق في الفراغ، لا يستند إلى أي أساس، يعيد إنتاج نفسه من فوق، من القيادة ممثلة في شخص الرئيس أو القائد الأوحد، فيشل الجمود حركته ويحول أجهزته الأمنية والإدارية والحزبية…الخ الضخمة المكلفة بإدارته أو حمايته، إلى عبء يتصدع تحت ثقله، وهكذا يستمر هذا النوع من الأنظمة الشمولية بالتدرج في الانهيار، حيث تبدأ بوادر تصدّعه بالظهور تباعا، لتشكل خطوة أكيدة لبدء مسلسل الانهيار والسقوط الحتمي، ليستمر هذا النظام يتآكل بالتدريج ويتم تفكيك تماسكه كونه كما يُقال (يسبح ضد التيار)، لأن عصرنا الحالي لم يعد يقبل التفرّد ولا يستسيغ الأحادية، ولا يمكن أن تكون مصائر عشرات الملايين من البشر معلّقة في شخص واحد يمنح نفسه القدسية التي تجيز له التحكّم بمصائر أمة كاملة.
الحرية في الرأي، وسلطة الشعب، والديمقراطية، هي السمات الأساسية لهذا العصر، وحين يفهم النظام القمعي هذه الحقيقة قد يلجأ إلى أساليب خداع لتحسين وجهه أما الشعب، بيد أن حبل الكذب والخداع قصير دائما، فسرعان ما تنجلي الحقيقة ليظهر وجه النظام القمعي المغطى بأغطية مهلهلة تتظاهر بالحريات لكنها في عمق حقيقتها تصادر شرعية سلطة الشعب، وتحاول الاستئثار بالسلطة والمال إلى أقصى حد ممكن، لتنتهي بالنتيجة إلى الانهيار الحتمي، ذلك أن التعديلات القشرية لا يمكنها إنقاذ هذا النوع من الأنظمة من سقوطها المدّوي، بسبب قيامه على بنية استبدادية قمعية شاملة منذ لحظة التأسيس وهذا هو الخطأ الإستراتيجي الذي تقع في الأنظمة الشمولية.
في الختام يبقى مصير هذا النوع من الأنظمة متأرجحا بين سياسة القمع الفاشلة من جهة، وبين ضغط الشعب وقواه الفاعلة والضاغطة باتجاه إطاحة بنية النظام القمعي السياسية، لذا لا يمكن أن يستمر هذا النوع من الأنظمة في مواصلة الحكم، وسيكون في مواجهة خاسرة في جميع الأحوال، حيث يكون مآله التآكل والتساقط والانهيار كونه لم يعد مقبولا أو متناغما مع روح العصر الراهن ومتطلباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فصفعة السقوط المدوي قادمة لا محالة لما تبقّى من أنظمة قمعية في القسم الشرقي من المعمورة.
اضف تعليق