يذهب دعاة اللّاعنف إلى الدعوة في استمرار المقاومة السلمية حتى تنضج الظروف الذاتية والموضوعية، لأن اختيار الوسيلة هو جزء من الغاية، وحسب غاندي هما مثل علاقة الشجرة بالبذرة لا يمكنهما أن ينفصلا، وسيكون ثمن اختيار العنف باهظاً على المستوى الإنساني، ناهيك عن أن العنف سيولّد العنف...
«السياسية» أحياناً تضطّر صاحبها إلى «المكر والعنف والتضحية بالإنسان»، وقد لا تنطبق هذه «الوسائل» مع الغايات التي تدعو لها، بل تتعاكس معها أحياناً، إذْ إن اللجوء إلى العنف لا يفسد الغايات فحسب، بل يمحو أثرها حتى وإن كان نبيلاً، وكم من غاية نبيلة التبست عند أول اختبار باستخدامها وسائل بالضد منها.
هكذا يصير العنف «آلة عمياء للدمار والهدم والاكتساح والموت» حتى عندما يُراد منه تبرير هدف نبيل أو غاية شريفة. ولعلّ ذلك ما دفع أديباً مرهفاً ومتمرّداً مثل ألبير كامو إلى القول ب «عدم جواز تبرير استخدام كل شيء في سبيل تحقيق سعادة البشر»: فتلك السعادة تقتضي دائماً: خدمة الإنسان وكرامته بوسائل كريمة، والإنسان هو الذي يختار الوسائل ويقرّر تطبيقها، ولهذا فعليه ألّا يدع الوسيلة تفلت منه وتنفصل عن الغاية، لأن أي افتراق بينهما لن يكون لصالح الغايات النبيلة.
وإذا كان نيكولو ميكافيلي في كتابه «الأمير» الذي احتفلت إيطاليا في العام 2013 بمرور 500 عام على صدوره، قد افترض ما يعتمده الحكام بشكل خاص من أن «الغاية تبرّر الوسيلة» فمن يا تُرى يبرّر الغاية؟ أليست الوسيلة ؟ وإذا كان ثمة شك في ذلك فمن سيكون غيرها إذاً؟
لا يكفي القول: أن تكون الغاية عادلة لكي تكون الوسيلة عادلة هي الأخرى، بل لا بدّ من تدقيق ذلك وإلّا ستفسد الوسيلة والغاية معاً. وإذا ما كانت الوسائل غير عادلة، فذلك يجعل حتى الغاية غير عادلة، وتلك معادلة طردية، وهكذا ينبغي أن تتوافق الوسائل وتنسجم مع الغايات. وإذا كانت قيم معينة تحكم أي عمل، فالقيمة الحقيقية «للقيمة» تكمن في استخدام الوسيلة السليمة، خصوصاً حين تتوخّى الوصول إلى الحقيقة، لأن الدفاع عن هذه الحقيقة لا يتم بالعنف والإرهاب والقتل، فمثل هذه الوسائل التي تقوم على التعصّب والتطرّف والغلو ستنفي الغاية العادلة ذاتها.
وكان المهاتما غاندي قد دعا إلى المقاومة المدنية لنيل استقلال الهند في إطار فلسفته اللّاعنفية مستفيداً من مراسلاته مع الأديب الروسي الشهير تولستوي واضع اللبنات الأولى لنظرية المقاومة السلمية والكفاح اللّاعنفي، من خلال بلورته لأساليب جديدة في مناهضة القوانين غير العادلة، مؤكداً على الضمير قبل القانون، باعتباره قوة ضبط داخلية وهو المعوّل عليه لأنه هو المنوط به ما يفعله الإنسان.
اللّاعنف هو وسيلة نضالية وهو وسيلة كريمة بمقدورها تحقيق النصر حسب فيلسوف اللّاعنف المعاصر جان ماري مولر. وأستحضر هنا ما قاله في محاضرة له في أربيل ضمن وفد من جامعة اللّاعنف لتدريب كوادر حقوقية، حين أعاد تأكيد دعوة ألبير كامو للتمرّد ضد العنف: أن أتمرّد فأنا موجود، لأن التمرّد يتغلّب على كل ضغينة وحقد، كما أنه لا يريد ولا يتمنّى أن يشقى أي إنسان من الشرّ الذي يتكبّده. والتمرّد برفضه للشرّ لا يستهدف جلبه لغيره.
لقد ابتلي القرن العشرون بالإيديولوجيات التوليتارية مثلما ابتلي القرن الذي سبقه بالصراعات القومية، واليوم فإن العالم مُبتلى بالعولمة واقتصاداتها المتوحشة تلك التي تبرّر مثلما في السابق أيضاً، محق الإنسان، بأشكال مختلفة من العنف والتي تحاول أن تبرئ نفسها من آثامه، بإضفاء الشرعية على استخدامه، ولذلك فإن الدعوة لرفض العنف والتمرّد عليه تعني أنها موجهة ضد المنهج أساساً وضد مبرّراته، لأنه عنف يستهدف امتهان كرامة الإنسان بغضّ النظر عن مبرراته ومزاعمه.
وحتى لو كان استخدام العنف في لحظة ما ضرورياً مثلما هو للدفاع عن النفس ضد محتل أو غاز أو معتدٍ، فالضرورة لا تساوي الشرعية دائماً. الضرورة فعلٌ يستخدم بشكل مؤقت وليس فعلاً دائماً، وهي لحظة مفصلية تمثّل الاستثناء، والعبرة دائماً بالقاعدة، ولذلك فإن ضرورة استخدام العنف لا تعطيه الشرعية الدائمة والمستمرة، مثلما لا تلغي فريضة اللّاعنف التي يفترض أن تكون القاعدة.
ولكن ماذا لو لم نستطع أن نحقّق الأهداف النبيلة بوسائل اللّاعنف، فماذا نفعل؟ هل نضحّي بوسيلة اللّاعنف؟ هناك من يريد الوصول إلى نتائج سريعة واختصار الطريق والوقت، لكن ذلك قد يؤدي إلى التضحية بالحقيقة ذاتها، ولذلك يذهب دعاة اللّاعنف إلى الدعوة في استمرار المقاومة السلمية حتى تنضج الظروف الذاتية والموضوعية، لأن اختيار الوسيلة هو جزء من الغاية، وحسب غاندي هما مثل علاقة الشجرة بالبذرة لا يمكنهما أن ينفصلا، وسيكون ثمن اختيار العنف باهظاً على المستوى الإنساني، ناهيك عن أن العنف سيولّد العنف.
إذاً لا ينبغي الجزع أو قلّة الصبر بسبب عدم استكمال ظروف التغيير، فذلك أشرف ألف مرّة من العنف والقتل، الذي ستتزعزع به الحقيقة.
اضف تعليق