q
ان العملية السياسية هنا معقدة للغاية ويتوهم من يعتقد انه يغير في اسسها بشكل جوهري بمجرد تظاهرة غاضبة من الحكومة لسبب ما، وايضا ان عدم الاتفاق على التظاهر في اكبر عدد من المدن العراقية وبحشد كبير، يجعل صداها محدودا جدا او عديمة الجدوى، وان استهداف الحكومة فقط، يعرض التظاهرة للاستغلال السياسي في ظل التنافس بين القوى ويجعلها اداة للدعاية والدعاية المضادة...

يَروي الصحفي العراقي التركماني، الرائد، حبيب الهرمزي حكاية طريفة عن تظاهرة للطلبة التركمان في كركوك، في العهد الملكي، ويقول، انه في العام 1949 قرر الطلبة في ثانوية كركوك، التظاهر ضد مدرس مادة اللغة الانكليزية، حيث لم يكونوا راضين عن طريقته في التدريس، اضافة الى طلبهم من الادارة، فتح شعبة اخرى، لان العدد الكبير من الطلبة في الصف لايسمح لهم باستيعاب المادة، لكن الادارة لم تلب الطلب لعدم وجود مدرس آخر، فقرروا الاضراب وعدم دخول الصف ومن ثم تركوا المدرسة وتوجهوا الى خارج كركوك، اي الى البراري، للتظاهر هناك ضد المدرس المذكور (عزيز صبور) وهذا اسمه، كما يذكره الهرمزي، الذي يضيف ايضا انهم، اي الطلبة التركمان، بقوا هناك اكثر من اربع ساعات، يهتفون ضد المدرس دون ان يسمعهم احد، ثم انشغلوا بعد ذلك بالغناء والاناشيد والتصفيق الى ان بحّت اصواتهم واصابهم الملل وعادوا الى المدرسة او الى بيوتهم وكأن شيئا لم يكن!!

الحكاية على طرافتها، تنطوي على بعد تعبيري مزدوج، يمكن قراءته بعيدا عن اهداف التظاهرة نفسها، اي قراءة الحمولة الوجدانية للطلبة وكيفية تصريفها، بعد ان ضاقت بهم السبل وهم يبحثون عمن يحقق لهم مطاليبهم، وهي تصلح ان تكون مقاربة لما نراه اليوم في تظاهرات بعض الشباب ضد الحكومة، والتي نرى انها محكومة بمعادلة لم يفك طلاسمها المتظاهرون الشباب بعد، اي معادلة الواقع السياسي في العراق وامتداداته التي تحتاج الى قراءة اعمق من تلك التي تدفعهم الى التظاهر وتفريغ شحناتهم العاطفية ضد الوضع القائم، ظنا منهم انهم سيحققون اهدافهم من خلاله، وهم بذلك يشبهون الطلبة التركمان في تظاهرتهم المشار اليها، بعد ان ضاقت بهم السبل، ولم يسمع طلبهم احد في المدرسة، واعتقد اننا نحتاج الى ايضاح بعض الامور بصدد تظاهرات اليوم، التي نتفق تماما مع ما تنطوي عليه من مطالب، ونختلف مع اصحابها في آلياتهم (التظاهراتية) للوصول الى الحقوق، ونقول، ان كثرة التظاهرات واستمرارها باعداد قليلة يسفهها ويجعلها عديمة الجدوى، على العكس من التظاهرات التي تحظى باعداد جيد وحشد كبير ومطالب ممكنة التحقق في بلد يجب ان يعرف الجميع ان واقعه السياسي يختلف تماما عن مصر وغيرها من الدول التي يحاول البعض تقليدها اوالاقتداء بها، لان ظروف تلك الدول مختلفة عن العراق تماما، اي ان العملية السياسية هنا معقدة للغاية ويتوهم من يعتقد انه يغير في اسسها بشكل جوهري بمجرد تظاهرة غاضبة من الحكومة لسبب ما، وايضا ان عدم الاتفاق على التظاهر في اكبر عدد من المدن العراقية وبحشد كبير، يجعل صداها محدودا جدا او عديمة الجدوى، وان استهداف الحكومة فقط، يعرض التظاهرة للاستغلال السياسي في ظل التنافس بين القوى ويجعلها اداة للدعاية والدعاية المضادة، على العكس من تظاهرات شباط من العام 2011 التي هزت الواقع السياسي وجعلت الساسة كلهم يعيدون النظر ببعض حساباتهم او اجندتهم الخاصة لاسيما المتعلقة منها بالحريات وغيرها.

ان التقليد مشكلة عراقية، سواء في السياسة او غيرها، ولعل البعض اعتقد، بعد ما يعرف بـ(الربيع العربي) ان العراق يمكن ان يكون كبقية الدول العربية، متناسين ان الدول الكبرى، التي رعت الاحداث او تبنت المطاليب المتمثلة بتغيير الانظمة هناك، وضغطت باتجاه ذلك، كانت لها حسابات لايمكن مقارنتها بحساباتها في العراق، لانه منذ العام 2003 بات على المستوى الإستراتيجي، في المشغل السياسي، الاميركي والغربي، وان خلاف تلك الدول مع النظام السياسي الذي تفرزه الانتخابات يبقى في كل الاحوال، اجرائيا، لأخذها بنظر الاعتبارالتركيبة السكانية المعقدة في العراق وانعكاسها على الواقع السياسي، بصفته افرازا لها، ولا يجب المساس بها بشكل جوهري، بمعنى اوضح ان تغيير النظام السياسي في العراق لم يعد رهن ارادة جماهيرية (غير واضحة المعالم)، او لاتحاكي التنوع، لكن هذه الارادة لها الحرية في التغيير من خلال الانتخابات، وليس اية وسيلة اخرى قد تؤدي الى نزاع اهلي، او هكذا ترى اميركا واوربا، ان الذين يبحثون عن ادوار، موجودون ايضا في التظاهرات، وكذلك البحث عن الاضواء، بفعل ملاحقة الاعلام لمثل هذه النشاطات المثيرة، وان الانغماس في هذه اللعبة سيكون مضرا وبشكل كبير بالتظاهرات التي تنطوي على مطالب ضرورية للشعب، اليوم وفي المستقبل، لان تشتيت الجمع في تظاهرات قليلة الحجم ومستمرة، يعني ان الامر تحول الى لعبة، وستكون مدخلا حقيقيا لضياع الحقوق التي من اجلها تخرج التظاهرات، او يجعلها كتظاهرة الطلبة التركمان الذين استفرغوا حمولتهم العاطفية في براري كركوك، وعادوا الى المدرسة، بعد ان اعياهم الهتاف والغناء، من دون ان يسمعهم احد!

اضف تعليق