q
ان شعور المفسدين والمخربين بالأمان، حقيقة يتحدث عنها المثقفون والشريحة الواعية والمفكرة التي يعوّل عليها في قسم كبير من مشروع التغيير والإصلاح، ولانه أمر معيب في اجواء يفترض انها ديمقراطية، نجد البعض يلقي باللائمة على شرائح المجتمع وانها السبب في هذا التمادي لسكوتها وعدم تحركها...

ما يثير الدهشة والاستغراب في العراق اليوم، ليس فقط تفشي الفساد الاداري، وغياب القانون والرقابة والمحاسبة، وانتشار ظواهر غريبة، مثل حصول انفجارات وحرائق في اماكن حساسة مع خسائر فادحة دون معرفة الاسباب الحقيقية، إنما المثير للدهشة؛ الامان والاطمئنان الغريب ايضاً في قلوب من يقف خلف كل هذه التجاوزات بحق الشعب العراقي، من أن تطاله – أو تطالهم- العقاب او المحاسبة.

ان شعور المفسدين والمخربين بالأمان، حقيقة يتحدث عنها المثقفون والشريحة الواعية والمفكرة التي يعوّل عليها في قسم كبير من مشروع التغيير والإصلاح، ولانه أمر معيب في اجواء يفترض انها ديمقراطية، نجد البعض يلقي باللائمة على شرائح المجتمع وانها السبب في هذا التمادي لسكوتها وعدم تحركها او استخدامها لوسائل ردع او انذار او غير ذلك، في حين تؤكد تجارب التاريخ القديم والحديث أن الشريحة المثقفة والمفكرة هي التي تصنع الوعي وتصوغ ثقافة شعوبها وتؤهلها للتغيير المطلوب من حالة الاستعباد والاستعمار الى الاستقلال والحرية، ومن حالة الديكتاتورية والفساد، الى المشاركة السياسية والتنمية والتقدم.

لكن لماذا يغيب هذا الدور الحضاري والمفصلي للشريحة المثقفة في بلد مثل العراق؟

المثقف بالاساس؛ لن يكون غائباً عن الساحة نظرياً، فهو موجود بنتاجاته الفكرية وفعالياته الثقافية المختلفة في الساحة ويسجل حضوره اعلامياً وسياسياً، وهذا ما يحتاجه أهل الحكم للتأكيد بأن كل شيء على مايرام ولا شيء يدعو لقلق الناس، وربما يستفيد من هذه الثغرة بعض المفسدين في الدولة لاسباغ شيء من الشرعية والمقبولية على وجوههم في وقت باتت الثقة معدومة بين المسؤول في الدولة وبين المواطن.

في حين المطلوب عملياً؛ تعبئة الرأي العام، وقيادة الشارع في مسيرات احتجاجية ومطلبية، او القيام باضرابات عن العمل، واستخدام سلاح الضغط الجماهيري بشكل حكيم ومتقن، وهو تستفيد منه بلاد عديدة في العالم تعيش في ظل ديمقراطية نسبة جيدة من النجاح.

للاجابة على السؤال نشير الى حالتين تعيشها الشريحة المثقفة تسببت في غيابها غير المقصود عن ساحة المواجهة مع المُفسدين وأي شكل من اشكال الانحراف في المجتمع والدولة في العراق:

الحالة الاولى: التركيز المفرط على المصالح الشخصية مقابل المصالح العامة، فربما سمع الناس بالحديث عن حقوق الصحفيين والادباء والعلماء والاكاديميين، من منح مالية، او قطع اراضي سكنية، او امتيازات معينة، وبلغ الامر احياناً الى ما يسمى "بدل خطورة" بسبب الاوضاع الامنية غير المضمونة وتعرض البعض لتهديدات من جهات متضررة من الكتاب والصحفيين، هذا فضلاً عن استحسان حفلات التكريم والتبجيل لهذا وذاك، علماً؛ ان هذا وغيره من الحقوق ذات الجنبة الانسانية، ليست بكثيرة على الشريحة المثقفة، مع التأثير الكبير لعامل التحفيز والتشجيع في ضخ النشاط في ابناء هذه الشريحة للمزيد من العطاء والابداع.

ولكن؛ ان يكون هذا هو الهم الأكبر، فهنا مثار تساؤل عن حقيقة الدور وغاياته؟ فان كانت؛ الجماهير وما تحمل من هموم وتطلعات وأن يكون المثقف ضمير الشعب ولسانه الناطق بشجاعة، فهذا ما يرجوه الناس، وحسنٌ ما فعل احد المثقفين في مدينة عراقية بأن أعطى مقص افتتاح حفل تكريمه الى عامل نظافة في القاعة، ووقف هو بجانبه يصفق لهذا العامل لانه يعده أحد المعنيين بالنشاط الادبي او الاعلامي، وهو الذي يجب ان يحمل هذا النشاط في ذهنه ووجدانه ويحوله الى فكرة وموقف ثم رأي عام مؤثر في صنع القرار.

الحالة الثانية: استمراء السلبيات بشكل غريب يتناقض تماماً مع مهمة المثقف المفترض انه يقدم الحلول والبدائل مما يحمله من افكار، ولمن يطالع مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الخبرية والمعلوماتية، يجد سيول هادرة من الحديث عن الاوضاع السلبية التي يعيشها العراق، سواءً على صعيد الدولة ومؤسساتها، او على صعيد المجتمع، بدعوى "الحقيقة" او انها "واقع حال"، في حين المعروف لدى الجميع من الناحية العلمية، ان التركيز على ظاهرة او حالة معينة يستدعي تكريسه وتثبيته كحالة طبيعية مهما كانت مقززة ومنكرة، وربما يعدها البعض انها من مطالب الناس ومما يرضيهم!

ولكن؛ كما أن هناك جمهور من المتابعين بشغف الفضائح والثغرات والهزائم، هنالك جمهور عريض يترقب بشغف ايضاً أي بصيص أمل في إنعاش حياتهم، وعندما يسمعون باخبار المبدعين والمبادرين في شتى الميادين، سواءٌ في التربية والتعليم، او في مجال الصحة، او في القضايا المجتمعية مثل؛ الطفل والمرأة والشباب وغير ذلك كثير، فانهم يتفاعلون ويتلقونها على انها بداية في الطريق الصحيح.

ان المشكلة ليست في نوعية الخطاب التي يتبعها البعض في نتاجه الثقافي، كأن يكون قصيدة شعر، او قصة، أو مقال صحفي، او دراسة، فالامر يعود الى مسألة فنية واخرى منهجية، إنما في انعكاس هذا الخطاب على الواقع السياسي والاجتماعي، فما يريده الحاكم الفاسد في أي مكان بالعالم، هو انشغال المثقفين بما هو بعيد عن البناء والإصلاح والتغيير، والاكتفاء بالامر الواقع الذي يقول البعض ان تغييره بعيد المنال، او ربما يكون مستحيلاً.

وإذن؛ فمن الصعب جداً صمود الشريحة المثقفة في المنطقة الوسطى بين جماهير الشعب، وبين الطبقة السياسية الحاكمة، فالحياد، كما هو غير صادق عند نقطة القيم والمبادئ، فانه كذلك عند نقطة الالتقاء بين جماهير الشعب والحاكمين، اذ لا مكان للمحايدين؛ إما مع الجماهير المطالبة بالإصلاح والتغيير، او مع الحكام الفاسدين المتشبثين بالواقع الفاسد.

اضف تعليق