لم تكن الديمقراطية هي السبب، بل رفض السبل السلمية لتسوية النزاعات هو العلة الأولى. وقد نكتشف، فيما بعد، بان الحريات السياسية والفكرية والانتخابات، ورغم الخلل في بناء الهيئات الرئيسية للسلطة، كانت ايجابية وساعدت في الحفاظ على دولة العراق، ولولاها ربما تكون الخسائر أفدح بكثير...
الديمقراطية لم تكن مطلبا لتحسين الأداء الحكومي والتنمية الاقتصادية، ولا من اجل السيادة والاستقلال، بل هي الملجأ الأخير للخلاص من جحيم الحروب على السلطة، هذا الملجأ الذي يقود اليه بالضرورة المنطقية مضمون كل القيم التي وضعت الإنسان غاية لها. لأن السلطة ومرادفاتها شوهت عميقا الإنسان وفكره ودينه واعاقت تطوره الحضاري في بلادنا.
تاريخ النزاع على الحكومة طويل في العراق وخسائره هائلة بكافة المقاييس، وليس المهم تفسير ما وراء تلك النزاعات: مظالم او استقطابات أثنية ودينية او طبقية؛ فلسفات؛ حركات؛ اصلاح؛ احزاب؛ عشائر؛ طموحات شخصية؛ وغيرها. بل لا بد من الاعتراف بأن العنف والترهيب وسفك الدماء في سياق التنافس على احتكار ادارة الشأن العام، ومواقع الرئاسة والأدوار، يتناقض في الصميم مع الشرط الأخلاقي الأساسي للشراكة بين البشر ضمن نطاق جغرافي يسمى الوطن.
ويعبر بالتأكيد عن تخلف حضاري في التعامل مع حياتنا الجماعية واحتياجاتنا المشتركة من العيب الفاضح التغطية عليه. ومن الضروري التذكير دائما بخطورة الترويج للاقتتال من اجل السيطرة على الدولة، واحتكار مواردها المادية والمعنوية، وادانة تبرير الوصول اليها بالمؤامرات وقتل الغيلة واية اساليب دنيئة اخرى. ومن الخطر التخلي عن مطالبة الجميع دائما بإعادة التعاقد على المساواة التامة بين العراقيين في استحقاق الكرامة والأمن والحرية، وفي حق الانتماء للوطن وانجازات شعبه، والثروات السيادية وامام القانون والقواعد التي تقوم عليها العدالة، وحاضر العراق ومستقبله.
العراقيون اسوياء اكفاء في وطنهم، لا يقبلون الوصاية عليهم، ويرفضون تقسيمهم وتعبئتهم جماعات متذابحة من اجل زعامة وهيمنة حزب او جماعة او قائد عبقري شجاع، هذا هو المبدأ الذي يؤسس لتطوير النظام السياسي والممارسة الديمقراطية في العراق.
ويستند تجريم وتقبيح جميع اشكال الحصرية والإكراه لفرض فكر او عقيدة لنفس الأسس وخلاصتها اصالة الكرامة في افراد النوع الإنساني، وان الفضاء العام من حقهم جميعا. لقد ذهبت بلا رجعة تلك العهود البغيضة عندما تصادَر حرية الإنسان وتمسخه الديكتاتوريات الى روبوت سياسي "من اجل الأمة والمصلحة العامة"، لأن الامة التي تسلب البشر حقهم في ممارسة الحياة العاقلة وحيوية الوجدان ليست موجودة اصلا.
ويعرف المهتمون والمشتغلون في السياسة العراقية بأن الديمقراطية كانت مطلبا منذ بداية تأسيس الجمهورية، ولم تتجرأ اية حكومة على انكار مشروعيتها صراحة، انما كانت تتذرع بالحرص على تثبيت الأمن والخوف من تدخل الدول الأجنبية او الرجعية... وهكذا.
لقد أدت الحرب الداخلية والإرهاب، ومختلف اشكال العنف التي أنهكت وعذبت العراق منذ عام 2003 الى التقليل من قيمة الديمقراطية واشاعت اوهاما بانها سبب لذلك الدمار. بينما لم تكن الديمقراطية هي السبب، بل رفض السبل السلمية لتسوية النزاعات هو العلة الأولى. وقد نكتشف، فيما بعد، بان الحريات السياسية والفكرية والانتخابات، ورغم الخلل في بناء الهيئات الرئيسية للسلطة، كانت ايجابية وساعدت في الحفاظ على دولة العراق، ولولاها ربما تكون الخسائر أفدح بكثير.
والنظام السياسي الحالي في العراق قابل للتطوير بتعديل الدستور وفسح المجال لتشريع قوانين تضمن تداول اعتيادي لمواقع الدولة، لتحييد فعل العوامل الاجتماعية – الثقافية التي تعطل قدرة الناخبين على اعادة تشكيل المجموعة الحاكمة. ومهما يقال عن نقص الأهلية للانتفاع من الديمقراطية، تبقى هي أفضل الأنظمة للتنمية السياسية، ومتى كانت الديكتاتورية تؤهل المجتمع لنظام سياسي أرقى، لأنها بطبيعتها ترتيبات استثنائية وانتقالية لا تلبث ان تتحول نحو دكتاتورية أقسى لتبدأ الديمقراطية من الصفر بعد زمن لا أحد يعلم نهايته.
والذين يسعون حقا نحو ديمقراطية ناجحة في العراق عليهم يقع واجب التمييز، الذي لا لبس فيه، بين ادارة وتنظيم اجهزة الدولة وحاجة العراق الماسة الى مركز المسؤولية من جهة والتداول السلمي للسلطة من جهة اخرى.
ثمة اتفاق على الكثير من اوجه القصور والتقصير في الاقتصاد والخدمات والعدالة الاجتماعية عند تقييم التجربة، لكن التوصيفات الرائجة ليست بعيدة عن الأمراض التي جاءت الديمقراطية لوقاية الناس من شرورها. ومما أسهم كثيرا في تكريس الفشل يأتي اولا التهرب من مهمات اعادة بناء الدولة وتنظيم وادارة اجهزتها على اساس الوظيفة والكفاءة، واعادة الاعتبار لمركز المسؤولية وتراتبيتها. إضافة على الارتباك المنهجي في الإدارة الاقتصادية، هذه النواقص وهي لا يستهان بها، تفسر العديد من المشاكل المرتبطة بالأداء الحكومي. واليها يعود العجز عن تحقيق انجازات ملموسة في استكمال وتطوير البناء التحتي، وتحسين الخدمات العامة ومعالجة معاناة الأحياء الفقيرة في المدن؛ والمباشرة في التصنيع؛ وشبكات الأرواء والمبازل وتحسين الإنتاج الزراعي بالتقنيات الميكانيكية والحيوية الحديثة وبالعلاقة مع ادارة أفضل لموارد المياه وغيرها كثير.
وسوف يساعد القبول النهائي والشامل بالديمقراطية من جميع القوى السياسية والفاعلين الآخرين في العراق، ودول المنطقة والدول الكبرى، على انقطاع مصادر التهديد بالعنف، ما يشجع على مبادرات وضغوط اصلاحية ويمهد للانتقال نحو المجتمع السياسي الوطني في العراق.
ولا يخفى مدى اعتماد سيادة القانون وحماية الحقوق على وحدة وتماساك الحكومة وقوتها، وايضا لأهل المعرفة والثقافة والنشطاء في صناعة الرأي العام دور كبير لوضع قادة السياسة امام مسؤوليتهم عن العراق وعدم مجاراتهم في لعبة التنافس.
الى الآن لم تظهر في العراق تيارات او مدارس عريضة في الاقتصاد والإدارة والقانون والعلاقات الدولية والدراسات الاجتماعية وسواها تقدم دليلا للحراك من اجل الإصلاح واعادة البناء. ولم تبدأ في تلك المجالات حوارات جادة عميقة تنهل من المعرفة المتخصصة وتعيد انتاجها وتطويرها لكي تنعكس في منابر الرأي العام وتسهم في الإنضاج السياسي للمجتمع الأهلي والأحزاب السياسية.
ومن المفيد للعراق التمسك بالديمقراطية والحفاظ على المكاسب التي تحققت للأسرة العراقية في مستوى المعيشة والاتصالات والانفتاح على العالم، وفي نفس الوقت التحرك لإزالة جيوب الفقر وإنصاف المحرومين. واكتشاف وسائل جديدة لتطوير دوائر الحكومة ومنهجيات عملها من اجل حسن التصرف بالموارد والنهوض الشامل في القدرات الوطنية للإنتاج والبناء والخلق والأبداع في جميع المجالات.
اضف تعليق