اغلب حكام وأنظمة بلادنا الإسلامية او من تدعي رفعها للواء الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية في نظام حكمها قد خالفت الفطرة الإنسانية وتعاليم السماء التي اقرها الباري عز وجل وضمنها للإنسان (المواطن) في الاعتراض على الباطل وفق قناعاته الشخصية او ما يعتقد به...

الحق اسم من أسماء الله تعالى، التي وصف بها نفسه في قوله عز وجل: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، وقد خلق الله الناس وشرع لهم حقوقاً، وعرفهم بها، كما حد حدوداً لحمايتها ورعايتها، وسن العقوبات الصارمة في حق كل من اعتدى عليها.

الحق في اللغة "الأمر الثابت اللازم للفرد والجماعة"، أما في الاصطلاح فهو "مصلحة مقررة شرعاً، وكل حق في الإسلام يقابله واجب، لكي يضمن المسلم التمتع بحقوقه، فمثلاً التعلم حق للطفل وواجب على الدولة، ومن خصائص الحق في الفكر الإسلامي، أنه ثابت، ومحدد، وواجب، كما أنه صحيح، وصادق، ولازم، ومطابق للواقع".

وفي الإسلام هناك ثلاثة حقوق رئيسية ترتبط ببعضها البعض في نهاية المطاف، فهناك حق الله على الانسان (في عبادته وطاعته ولزوم امره والابتعاد عن نواهيه)، وحق النفس او الانسان على نفسه (في رعايتها والوصول الى الكمال والابتعاد عن هلاكها)، وحق الانسان على الانسان (في حفظه وعدم التجاوز عليه والتعدي على حريته او التضييق عليه).

في معركة الجمل التي تشابكت فيها الفتن واشتبه فيها الحق من الباطل، الا من عصم الله من المؤمنين، قال امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) كلمته الخالدة لبعض المشككين (إنك لملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)، فلا وجود لرجال يقاس عليهم الحق او الباطل بل هناك معيار وميزان اسمه الحق واخر اسمه الباطل يقاس عليه ما يصدر من أفعال واقوال، فما وافقه انتسب اليه وما خالفه ابتعد عنه مهما كان عنوان ومكانة المخالف او المنتسب.

وهذه القاعدة الذهبية التي سنها امير المؤمنين حطمت الصنمية في اتباع الرجال كبديل عن الحق وتضع الاغلال عن التقليد الاعمى لأي عنوان (شخصية او مؤسسة او دولة) او أي جهة تعتبر انها المقياس للحق ومخالفها هو الباطل من دون دليل بين او حجة واضحة، بل كما وصفهم الباري (عز وجل) بقوله "انا وجدنا اباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون"‌، وهي قاعدة للميزان الحق والقسطاس المستقيم لكل من يحب الحق ويكره الباطل تصلح لكل زمان واي مكان.

ولو سحبنا هذا النص العلوي على واقعنا الراهن في محاولة لتطبيقه على ارض الواقع لوجدناه مصداقاً لقوله تعالى (واكثرهم للحق كارهون)، خصوصاً عندما يكون اتباع الحق او قوله "عند سلطان جائر" يعرض صاحبه لشتى أنواع الاضطهاد والظلم والتشهير والتعذيب ايضاً، لا لشيء سوى لأنهم حاولوا تطبيق هذا المعيار على الجميع دون تمييز، والاعتراض على من يدعي ان له وحده الحق والكمال.

المعارضة من الحقوق

ولعل أبرز سبب لسقوط الدول وانهيار الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيها هو ابتعاد قادتها عن اتباع الحق فضلا عن تطبيقه او سماعه ممن يختلفون معهم (المعارضة)، سواء اكان المختلف معهم عدو ام صديق كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أولئك الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأولئك هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).

وفي هذا السياق يضرب المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي في هذا المجال امثلة رائعة عن حكم النبي الاكرم (ص) والامام علي (ص) في ظل الحكومة الإسلامية وكيف تعاملا مع المعارضين لهما رغم عصمتهما ورغم ابتعاد معارضيهم عن الحق بالقول: "لقد سمح النبي محمد (ص) والإمام علي بن ابي طالب (ع) للمعارضة سواء كانوا أفراداً أو جماعات أن يقوموا بدورهم تعليماً للأمة في السماح للمعارضة، وإن كانا هما معصومين، وقد ورد في القرآن الكريم في النبي محمد (ص): (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى)، وقال النبي محمد (ص) في الإمام علي بن ابي طالب (ع): (علي مع الحق والحق مع علي)، وعليه فلا يحق للحاكم مهما كان أن يكبت المعارضة، فإن ذلك بالإضافة إلى كونه خلاف السيرة، خلاف العقل والمنطق، ويوجب كراهة الناس للحاكم مما ينتهي إلى سقوطه".

بل ويؤكد الامام الشيرازي "على الحكومة الإسلامية أن تسمح للمعارضة بأن تعيش في كنف الإسلام، وظلال الحكم الإسلامي، وحقوقها محفوظة ما دام لم تشهر السيف والسلاح ضد المسلمين، وهكذا كان يتعامل رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) مع أفراد المعارضة"، وهي جزء من التعددية التي كفلها الإسلام وحفظها كحق من الحقوق الاصيلة والتي يسمع فيها أكثر من صوت وليس صوت الحاكم المطلق فقط.

لكننا اليوم نجد ان اغلب حكام وأنظمة بلادنا الإسلامية او من تدعي رفعها للواء الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية في نظام حكمها قد خالفت الفطرة الإنسانية وتعاليم السماء التي اقرها الباري عز وجل وضمنها للإنسان (المواطن) في الاعتراض على الباطل وفق قناعاته الشخصية او ما يعتقد به شريطة ان لا يحول هذا الاعتراض الى عمل مسلح يمكن ان يتجاوز فيه على حقوق الاخرين، فالتعدد في الآراء وعدم فرض الوصاية على الاخرين بالإكراه او استخدام القوة هو الامر الذي اقره الإسلام وسار عليه أئمة اهل البيت صلوات الله عليهم اجمعين.

وفي هذا المجال يشير الباحث في الفكر الإسلامي المعاصر، الشيخ مرتضى معاش، الى هذه الحقيقة بالقول "ان الخطاب القرآني أشار بشكل مباشر الى التعددية، أولا القران الكريم طرح محور أساسي في الانسان وهو الحرية، فالإنسان حر وليس لاحد الحق في ان يفرض وصايته وسلطته وهيمنته عليه، وهناك الكثير من الآيات التي تعبر عن هذا المعنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، فأساس القران في تعامله مع الانسان هو حرية الارادة وأيضا ان التعددية هي محور جوهري في القرآن"، التعددية منبثقة من حالة التكوين لذلك فإنها حالة طبيعية فطرية في المجتمع، المشكلة الأساسية هو الاستبداد، والأنظمة السلطوية والمستبدة التي تنشر الفوضى وتخل بالتوازن الكوني والاستقرار الاجتماعي والسياسي.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق