هذا ما يفسر حالة التقلب السياسي لعقلية ترامب وسياسته الخارجية وغضه النظر عن بديهيات السياسة الخارجية الامريكية فيما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الانسان وحل النزاعات العسكرية والتخلي عن صفة شرطي العالم والالتفات إلى شعاره أمريكا أولاً. سواء فيما تعلق بالسياسة الأمريكية أو بحالة الصراع في منطقة الشرق الأوسط...
نوه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اللقاء الصحفي الذي عقده في مدينة أوياهو عن نيته في سحب قواته من سوريا وترك الأمر للأخرين "على حد قوله" مشيراً إلى دور بلاده في تحقيق النصر على تنظيم "داعش" معلناً عن قرار الانسحاب من سوريا في وقت قريب جداً وعودة جنوده إلى أرض الوطن. وعلى الرغم من أن قرار ترامب كان مفاجئاً لإدارته السياسية ولحلفائه في المنطقة، لاسيما للمملكة العربية السعودية وإسرائيل، لكن هل سيبادر الرئيس الأمريكي بالفعل إلى سحب قواته أم أن لهذا القرار مآرب أخرى؟
يبدو بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يخبر إدارته السياسية بقرار الانسحاب من سوريا أو التشاور معهم، وهذا ما ذكرته المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية (هيذر ناورت) التي نفت علمها بخطط الانسحاب من سوريا وعلقت على الأسئلة التي وجهت لها في المؤتمر الصحفي بأنها "تفضل الرجوع إلى البيت الأبيض بشأن هذا القرار".
ربما يرى البعض بأن قرار ترامب جاء منسجماً مع توجهاته السياسية وشعاره الانتخابي الذي رفعه قبل تولي رئاسة البيت الأبيض، لاسيما فيما يتعلق بحجم الانفاق العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. وهنا يمكن الإشارة إلى الرؤية الأمريكية قبل شهر أو أكثر بقليل وبالتحديد قبل اقالة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيرلسون الذي نوه إلى أن بلاده ستبقى في سوريا إلى ما بعد الانتقال السياسي، وهذا يعني بأن الإدارة الأمريكية حتى وقت قريب كانت تخطط للإبقاء على قواتها في سوريا في الامد القصير أو المتوسط "على اقل تقدير". فما الذي تبدل بعد اقالة تيرلسون وتعين سلفه مايك بومبيو؟
هناك غموض كبير يلف تصريحات ترامب المفاجئة بشأن الانسحاب من سوريا وإعلانه عن ترك الأمر "للأخرين"، فكلمة الأخرين مطاطية وتثير كثير من الأسئلة، إلا أن ترامب ربما كان يشير إلى اللاعبين الدوليين الذين يديرون دفة الصراع السوري، فهناك (روسيا وإيران وتركيا، فضلاً عن قوات الشعب الكردية وتنظيم "داعش" وفصائل المعارضة)، كلام ترامب كان واضحاً بشأن القضاء على التنظيم الإرهابي قبل الانسحاب، لكن ماذا عن الآخرين؟ وهذا ربما يؤشر على أن هناك سيناريو لتقسيم سوريا وفقاً لمناطق النفوذ التي يتمتع بها هؤلاء "الأخرون" وربما يتم من خلاله الاتفاق مع تركيا برعاية فرنسية من أجل السيطرة على الفرات وبعض المناطق المجاورة للنفوذ التركي والتفاوض مع قوات سوريا الديموقراطية أو مقاتلتها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الأمر متعلق بالروس والإيرانيين، ولربما أيضاً أن الرئيس الأمريكي يفكر جدياً في نسف الاتفاق النووي مع طهران في الايام القادمة ومفاوضة الروس فيما يتعلق بإدارة ملف الصراع السوري، فضلاً عن ذلك ربما يكون تصريح ترامب هو ابتزاز إقليمي ودولي لكل الاطراف المعنية بالصراع السوري، لاسيما بالنسبة للمملكة العربية السعودية. وقد يكون سيناريو الابتزاز والمساومة مع الحليف التقليدي للولايات المتحدة المتمثل في السعودية أكثر السيناريوهات ترجيحاً التي تقف وراء تصريحات ترامب الاخيرة بشأن الانسحاب سريعاً من سوريا، لاسيما وأن كلمة الرئيس الأمريكي اشارت إلى حجم الانفاق الأمريكي في سوريا والذي قدرها بـ7 ترليون دولار أمريكي.
فضلاً عن ذلك، فإن حديث ترامب عن الانسحاب الأمريكي من سوريا كان متزامناً مع زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة والحديث عن زيادة حجم الاستثمار بين البلدين، لاسيما وأن ترامب يدرك جيدًا أهمية الملف السوري بالنسبة للسعودية، كونه أحد أبرز ساحات الصراع على النفوذ مع الغريم التقليدي، إيران، كما يعلم أيضًا أن تحقيق الرياض لأهدافها داخل سوريا مرتبط بالوجود الأمريكي هناك؛ ولهذا ربما يريد أن يضغط على الإدارة السعودية من اجل كسب المال، وهذا ما يتسق مع رؤيته الاقتصادية ودعايته الانتخابية في تحسين الاقتصاد الامريكي وتطوير البنية التحتية الامريكية من خلال كسب الأموال، وتقليل الانفاق العسكري والانسحاب من مناطق الصراع التي لا تجدي نفعاً اقتصاديا للولايات المتحدة الامريكية.
وهذا ما يفسر حالة التقلب السياسي لعقلية ترامب وسياسته الخارجية وغضه النظر عن بديهيات السياسة الخارجية الامريكية فيما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الانسان وحل النزاعات العسكرية والتخلي عن صفة شرطي العالم والالتفات إلى شعاره أمريكا أولاً. ووفقاً للمعطيات الحالية سواء فيما تعلق بالسياسة الأمريكية أو بحالة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، فإن قرار الانسحاب ربما يكون شعاراً سياسياً في هذا الوقت، وبالتالي فإن قرار الانسحاب من سوريا لا يمكن أن تتخذه الولايات المتحدة بمفردها دون الاتفاق مع الروس وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وقد يكون هذا القرار شماعة من أجل الضغط على المملكة العربية السعودية وابتزازها مالياً.
لكن مع ذلك سيبقى السؤال مطروحاً، ماذا لو قررت الإدارة الأمريكية الانسحاب الفعلي من سوريا؟ وكيف سينعكس ذلك على شكل الصراع السوري والصراع في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام؟ وهل سيكون العراق اول ضحايا الصراع السوري كما حدث في العام 2014؟
اضف تعليق