الانحراف الخطير عن مسار الديمقراطية، من شأنه دفع العراق نحو المزيد من الازمات والنكبات من خلال إعادة الحياة للصنمية السياسية لكن بثوب جديد على مسوح الشرعية الجماهيرية، فاذا كان التصفيق لديكتاتور واحد فيما مضى من الزمن، فاليوم اضحى التصفيق لاكثر من ديكتاتور، بل والمثير حقاً؛ ان تشمل الصنمية الجنسين؛ الرجل والمرأة!

من أولى التداعيات الاجتماعية لانهيار نظام صدام، التسابق الغريب بين مختلف افراد المجتمع على التبرؤ من أي مديح او تصفيق لصدام وحزبه، وكلٌ يسعى لتنظيف ساحته من أية شائبة تشير الى نظم قصيدة مدحٍ، او الاسهام في التعبئة لما كان يسمى بجيش القدس، أو من ارتدى الزي الزيتوني الخاص بالمتميزين من اعضاء حزب البعث، وحتى المشاركة في إعداد "التقارير الأمنية" لكسب نقاط امتياز اضافية لدى الاجهزة "الامنية" ودوائر الحزب الحاكم، فمن تمكن من كل ذلك فعل، وإلا لزم داره او فضل الاختباء او الابتعاد عن العراق الى الابد.

إن التبرؤ من التصفيق للديكتاتور، رغم انه بات يمثل عملاً عبثياً بنظر عامة الناس، كون الجميع فعل ذلك، بيد أنه يمثل حالة نفسية مدعاة للتأمل في حقيقة القناعات الكامنة في نفوس الشعب العراقي وموقفهم الحقيقي من الحاكم الذي يعدونه ظالماً وجائراً، فاذا كان ذلك التصفيق عن ايمان عميق بأحقية صدام بذلك المديح، لما شهدنا تبرؤ الجميع مما حصل، او ان يصمت البعض او يغير البعض الآخر موقفه.

أما بعد تاريخ التاسع من نيسان عام 2003، عملت منظمات مجتمع مدني واحزاب سياسية على الترويج لمفاهيم النظام السياسي الجديد، ومنها أن الشعب العراقي لن يكون مجبراً على التصفيق والتزلف للحصول على الوظيفة والبيت والسيارة وحتى بقائه على قيد الحياة، إنما هذه من مهام النظام الجديد القائم ظل على نظرية الديمقراطية المتضمنة إشراك الناس في صناعة القرار، فالنائب الذي ينتخبونه بحرية مطلقة، هو الذي يختار لهم الوزير ورئيس الوزراء، وهم الذين يشرفون على القضاء والاعلام والامن والدفاع وسائر مؤسسات الدولة، وإن حصل تلكؤ في المهام، فله الحق في التظاهر السلمي لتقويم الانحراف.

ولكن؛ الغريب في الأمر اننا كلما تقدمنا في عمر التجربة الديمقراطية، اقتربنا الى تجربة التصفيق للديكتاتورية، فاذا كانت هذه الظاهرة تنمو في أجواء الديكتاتورية الفردية، فما بال البعض يمارسها اليوم في ظل الاجواء الديمقراطية وبملء ارادته وبطيب خاطر؟!

فقد عاد بعض المحسوبين على الثقافة والاعلام للترويج لهذه القائمة او تلك الجماعة او حتى الشخص المعين، كما عادت ما يسمى في الاوساط العشائرية بـ "الهوسات" من قبل "المهوال" الذي يردد هتافات بكلمات مسجّعة باللهجة العراقية الدارجة.

هذا الانحراف الخطير عن مسار الديمقراطية، من شأنه دفع العراق نحو المزيد من الازمات والنكبات من خلال إعادة الحياة للصنمية السياسية لكن بثوب جديد على مسوح الشرعية الجماهيرية، فاذا كان التصفيق لديكتاتور واحد فيما مضى من الزمن، فاليوم اضحى التصفيق لاكثر من ديكتاتور، بل والمثير حقاً؛ ان تشمل الصنمية الجنسين؛ الرجل والمرأة!

إن اول ما يتعرض للانتهاك في هذه الفوضى السياسية؛ حقوق الناس ومطالبهم، وهي ضائعة طيلة السنوات الماضية، بيد إن الامل سيموت في النفوس من العيش في ظل عدالة – ولو نسبية- وكرامة وأمان، عندما يحرص البعض على إرضاء رغبات ومصالح هذا المرشح او ذاك، قبل النظر الى مصالح وكرامة ابناء الشعب الذي ينتمي اليه.

وفي ظل واقع من هذا النوع، ما الذي يجبر النائب، بعد وصوله تحت قبة البرلمان، وايضاً الوزير والمدير بل حتى رئيس الوزراء للتفكير بإعطاء حقوق المواطن كاملة، وستكون لدينا معادلة جديدة في ديمقراطيتنا العراقية، فبعد استقرار "المسؤول" العراقي على عقيدة ثابتة بأن المواطن قادر على تعويض ما يفقده من خدمات، وقادر على التكيّف والتغاضي، فانه يستقر على عقيدة جديدة تفيد بعدم تفكير المواطن بحقوقه الاساسية وعلى رأسها؛ الحرية والعدالة والامن، فثمة شريحة واسعة بالمجتمع – حسب تصور الساسة الموجودين- ينعمون بفوضى الحرية ويعملون بما يشاؤون وقادرين على توفير الامن لانفسهم بوسائل متعددة، وإلا فان مطالب اساسية كهذه تستدعي خوض مراحل عدّة من الكفاح وتحديات جمّة، ليس أقلها تجاوز المصالح الآنية وتأجيل الذاتية لصالح التفكير الجماعي وتحقيق الصالح العام، فهذه وغيرها من الخطوات تكون منظورة بغير قليل من الحذر من الساسة والطامحين للحكم بأن يفكروا ألف مرة قبل الاقتراب الى الناس ومحاولة الاستفادة من اصواتهم الانتخابية بشكل لا أخلاقي.

اضف تعليق