الجزء الأهم ربما في \\\"البوتينية\\\" الرابعة هو الرد الروسي المدوي على الاستراتيجية الكونية الجديدة للولايات المتحدة، التي وضعت روسيا – ومعها الصين – في عداد أخطر قوتين رجعيتين، تهددان الولايات المتحدة... بوتين كشف عن \\\"سلالات\\\" جديدة من الأسلحة، يمكنها – مبدئياً – كسر التفوق الأمريكي واستعادة التوازن في موازين القوى العسكرية.
في الاونة الأخيرة لعبت روسيا بقيادة زعيمها فلاديمير بوتين دورا محوريا في العديد من القضايا الإستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي، كان أبرزها القضية السورية، التي استطاعت من خلال العقلانية السياسية الناعمة أن تفرض نفسها كقوة عالمية عظمى عندما تمكن من تغيير قرار خصمها اللدود الولايات المتحدة الأمريكية عن توجبه ضربة عسكرية كانت وشيكة ضد سوريا، وشيئا فشيئا بدأت دولة الدب الروسي تستعيد جاذبيتها في الشرق الأوسط، على حساب تراجع النفوذ الأمريكي، وذلك من خلال بناء بروتوكولات دبلوماسية عسكرية بثوب ديمقراطي مع معظم دول الشرق الأوسط كالعراق ومصر، فربما تستطيع روسيا اليوم من خلال سياسيتها البرغماتية سحب بساط الهيمنة من غريمتها أمريكا خصوصا وأن الأخيرة بدأت بالتوجه نحو القارة الصفراء بحثا عن مصالح إستراتجية غير مكلفة.
وعلى الرغم من التصريحات الاخيرة للرئيس الروسي بوتين بأن روسيا لا تحاول ان تكون قوة عظمى ولا تسعى لأن تعلم الجميع كيف يعيشون في انتقاد مستتر للولايات المتحدة، ولا نطمح للحصول على لقب القوة العظمى ... الذي يؤخذ على انه تطلع للهيمنة عالميا واقليميا.
الا ان أغلب المحللين يرون طموحات الدب الروسي عكس تصريحاته كون هدفه الأساسي هو استعادة الهيبة الروسية دوليا، وكذلك توسيع نفوذه محليا منذ توليه منصب الرئيس لأول مرة، وذلك من خلال تقديمه صورة ستالينية ناعمة جديدة، حيث يرى هؤلاء المحللين بأن الزعيم الروسي ورجل المخابرات الروسية السابق يغرس احدى قدميه في الماضي السوفيتي لروسيا كما تبديه دلائل عديدة في رغبته بالرجوع للماضي، وتمثلت بالتعديلات التي تم على كل المستويات ابان حكم بوتين وخاصة في الاونة الاخيرة، وعلى الرغم من ان الكثير من الروس بأن بوتين رئيسا مثاليا، لكن في الوقت نفسه يجابه معارضة شرسة لا تزال تواصل انتقاده ورفضها لحكمه وتتجلى بمظاهرات تخللتها صدامات مع الشرطة.
وتندد المعارضة الروسية ومنظمات غير حكومية باجراءات بالتضييق الشديد على المعارضة منذ عودة فلاديمير بوتين الذي عمل على تقليص حركة الاحتجاج التي نجحت في شتاء 2011/2012 في حشد حتى مائة الف شخص.
ويرى مراقبون سياسيون بان ما تقوم به حكومة بوتين من مضايقات وتشيد العقوبات ما هي الا رسالة موجهة الى المعارضين لاثبات ان السلطة مستعدة لتضييق الخناق عليهم بشدة وحزم اكبر من اي وقت مضى.
في روسيا هناك مثل شعبي قديم يقول .. "القيصر دائما على حق"، وسواء كان الامبراطور رومانوف أو رئيس الدائرة الحكومية السوفيتية أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومهما كان النظام قاسيا يرى الروس عادة أن زعماءهم معصومون من الخطأ، وخلافا للمنطق السائد الذي يقول ان القمع يولد الانفجار تحمل الروس بعضا من أسوأ الطواغيت في التاريخ ورغم ذلك لديهم خوف من التغيير يقترب من خوفهم من يوم الحساب. فنهاية النظام لا تعني الأمل بل فوضى عارمة.
وعلى مدار تاريخ روسيا أيد الروس زعماءهم بغض النظر عن السياسة التي ينتهجونها. وهذا يفسر اخلاص الشعب الروسي للحاكم ذي "القبضة القوية" على السلطة ويفسر أيضا انعدام ثقتهم في الديمقراطيات التعددية، وما زاد وغطى انه حين ينتقد "الاخر".. الولايات المتحدة أو الاتحاد الاوروبي الكرملين لسياساته القمعية يهب الروس ويحتشدون خلف حاكمهم مثل ما نشهد الان مع بوتين.
فبين الحين والاخر تشهد روسيا نوبات صراع وتحدي جديدة على أكثر من صعيد في الاونة الاخيرة، وخاصة في المجالين الاقتصادي الحقوقي في البلاد، وقد تجسدت هذه النوبات بالممارسات والإجراءات التي قامت بها السلطات الروسية من خلال تفتيش المنظمات غير الحكومية، لتكشف هذه الممارسات عن مخاوف القادة السياسيين في روسيا من انعكاس اعمال هذه المنظمات لزعزعة النظام الداخلي في البلاد.
كما تشهد المؤشرات الاقتصادية الروسية تراجعا ملحوظا في المدة الأخيرة، وتوجه السلطة اللوم الى الازمة المستمرة في منطقة اليورو حيث شركاؤها التجاريون الرئيسيون. كما تنسب تراجع النشاط الى مستوى نسب الفائدة المرتفعة التي فرضها البنك المركزي والمؤسسات المالية.
لكن في الاوساط الاقتصادية والمالية تسود المخاوف من مناخ غير مؤات للاعمال يثقله الفساد والبيروقراطية والارتهان لتقلبات اسعار النفط، فقد انهك المستثمرون نتيجة سياسة اقتصادية تراوحت بين مؤشرات التحرير (الانضمام الى منظمة التجارة العالمية، الخصخصة) وقرارات توجيهية ولا سيما مع استحواذ شركة روسنفط العامة العملاقة على شركة تي ان كاي-بي بي النفطية، وتاخرت الحكومة في طرح مشروع الاصلاح الموعود لنظام التقاعد بسبب جدل حول الصيغة المطلوبة.
ولا يزال الروس يحبون "البوتينية" رغم انها خليط من السلطة المركزية والمخابرات (كيه.جي.بي) واقتصاديات السوق التي تتحكم فيها الدولة مع بعض الحريات المتمثلة في احتجاجات منتقاة وصدور بعض الصحف المستقلة.
لكن المنتقدين يرون ان البوتينية كانت تنفع في مطلع الألفية الجديدة لكنها لم تعد منطقية الان، لكن المنطق السائد يقول ان ارتفاع اسعار النفط في بداية الالفية وفرت للروس سوقا مستقرة للعمل ومنتجات استهلاكية ومترفة لم يعهدوها من قبل.
ورغم ان سياسات بوتين أتت بعقوبات اقتصادية معوقة ردا على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الاوكرانية العام الماضي لا يرى سوى 12 في المئة من الروس فقط انه يجب التصدي له بالمظاهرات وترى الغالبية العظمى انه يكفي ان بوتين يقف في وجه الغرب، فالروس مؤمنون بان الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي يريدان "تركيع" روسيا.
الجزء الأهم ربما في "البوتينية" الرابعة هو عندما جاء الرد الروسي مدوياً على الاستراتيجية الكونية الجديدة للولايات المتحدة، التي وضعت روسيا – ومعها الصين – في عداد أخطر قوتين رجعيتين، تهددان الولايات المتحدة... بوتين كشف عن "سلالات" جديدة من الأسلحة، يمكنها – مبدئياً – كسر التفوق الأمريكي واستعادة التوازن في موازين القوى العسكرية، فيما بدا أنه رد مباشرة على الاستراتيجية الدفاعية والنووية الجديدة للبنتاغون، وما يمكن وصفه بـ "سبق تسلح جديد" بين موسكو وواشنطن، يستعيد مفردات الحرب الباردة ويذكر بها.
ردود الفعل الدولية الأولية على خطاب بوتين الأخير، تفاوتت ما بين القلق والتحذير من عواقب "خرق روسيا لمعاهدات خفض سباق التسلح" إلى محاولة التقليل من شأن ما تم الكشف عنه من أنظمة تسلح جديدة، أما في العالم العربي فقد توزعت الآراء والتقديرات، المنقسمة أصلاً، على ثلاثة وجهات نظر: أولاها؛ تبشر بانتهاء عصر "الأحادية القطبية" وعودة روسيا لأن تكون القطب الدولي الثاني... ثانيتها؛ ترى الأمر سابقاً لأوانه، وتجزم بأن الولايات المتحدة ستبقى على عرش القطب الواحد لسنوات عديدة قادمة... وثالثتهما؛ ترى أننا أمام سنكون أمام مزيج غير متجانس من "التعددية القطبية" حين سيتوزع القرار الدولي على عدد من الدول العظمى القديمة والناشئة، وإن بتفاوت.
وعليه فان المعطيات آنفة الذكر تظهر ان روسيا الحالية تحت قيادة بوتين تتأرجح مابين الصعود كالقوة عالمية عظمى أو قد تكون عرضة لأزمات حقوقية واقتصادية تمهد الطريق لانتكاسة جديدة قد تكلف الروس خسائر كبيرة على الأصعدة كافة.
لكن كما يبدو ان الرئيس بوتين يقود روسيا منذ اكثر من عقد بيد من حديد، كونه ينتهج ايدلوجية سياسية جديدة تمهد الطريق لإعادة توازن القوى مع الغرب وخاصة أمريكا من خلال التطور الاقتصادي والعسكري المتصاعد في الاونة الاخيرة، وكذلك باعتمادها اتجاهات عديدة في سياستها الخارجية من خلال اعتماد مبدأ المصلحة السياسية بغطاء براغماتي، لكي يتمكن من تحقيق غاية عودة الى الامجاد السوفيتية السابقة.
اضف تعليق