صدق من قال: "النصر له ألف أب، والهزيمة لا أباً لها"، فالهزيمة المنكرة التي لحقت بالجيش العراقي في حزيران عام 2014 أمام عناصر تنظيم داعش، وتسببت بكل تلك المآسي والويلات للشعب العراقي، لم نجد للمسؤول عنها من أثر، رغم التحقيقات والاستجوابات والمطالبات من هنا وهناك دون جدوى، ولكن؛ ما أن هبّ شباب العراق الغيارى، لمواجهة هذا الخطر الداهم، وسجلوا الانتصارات الباهرة وتمكنوا من تحرير اكثر من ثلث الاراضي العراقية من احتلال هذا التنظيم، حتى بدأنا نسمع من يدّعي "وصلاً بليلى" وأنه صاحب الفضل في تحقيق هذا الانتصار العظيم، على أن هذا التنظيم لم يتلقّ الضربة القاصمة من الاميركيين ولا من البريطانيين ولا من الفرنسيين ولا من الروس، سواءً في ميدان القتال في سوريا والعراق، ولا حتى في بلدانهم التي اجتاحتها عمليات هذا التنظيم، وإنما جاءته الضربة القاضية من شباب العراق الذين اندفعوا، ليس بالمعدات العسكرية الحديثة، ولا بالقوة الاستخبارية المساعدة، ولا حتى الدعم اللوجستي الكافي في الايام الاولى، وتحديداً في عام 2014، حتى جاءت المعدات العسكرية والسلاح من ايران، وانبرت جهات سياسية في الداخل لتقوم بدور المنظم لصفوف المتطوعين لقتال داعش وتشيكل قيادة ميدانية لـ "الحشد الشعبي". ولكن!
من الذي جعل الشاب اليافع والرجل المتزوج و رب الأسرة، ان يتخلّوا عن حياة الاستقرار والراحة بين افراد عوائلهم، وينطلقوا الى ساحة القتال التي كان الموت سيد الموقف فيها، حيث لا اسلحة حديثة، ولا تدريب عسكري بالمستوى المطلوب، غير الدافع الديني والشعور العميق بالواجب إزاء الدين والمقدسات التي كانت مهددة آنذاك؟
إن إصدار فتوى الجهاد الكفائي لقتال تنظيم ارهابي وتكفيري مثل داعش، لا يحمل طابعاً شخصياً، فهو ليس خطة عسكرية مبتكرة او اجتهاد شخصي، انما القضية ذات جذور عميقة تصل الى صدر الاسلام، فالشاب الذي ترك زوجته الشابة وطفله الصغير، تلبية لنداء المرجعية الدينية، يكرر ما قام به حنضلة؛ ذلك الصحابي الجليل الذي لبّى نداء النبي الكرم، بالجهاد وهو في أول ليلة زواجه، ثم يستشهد في تلك المعركة، ويحمل صفة "غسيل الملائكة" على مر التاريخ، مع الفارق؛ إن الاخير شارك في الجهاد العيني بإمرة المعصوم، وشبابنا اليوم في العراق شاركوا في الجهاد الكفائي بإمرة مرجع الدين المخوّل بالفتوى من قبل الإمام المعصوم.
لماذا تهميش فتوى الجهاد ضد داعش؟
لو نظرنا ملياً الى علاقة النظام السياسي الحالي في العراق بالمرجعية الدينية، وجدناها علاقة بعيدة عن التسييس والتأزيم، ويمكن القول معه؛ وجود حالة من "الفصل بين السلطتين"، وهو ما دعا اليه علماؤنا طيلة القرون الماضية، بأن تكون المؤسسة الدينية، متمثلة بالحوزة العلمية والخطباء والفقهاء ومراجع الدين، بعيدين عن أجواء الحكم، إنما يكون دورهم رقابي للتقويم والتسديد، لذا نلحظ السمعة الطيبة والصورة الناصعة لمراجع الدين في العراق، لدى الرأي العام العالمي، ولدى المنظمات الدولية، وتحديداً الأمم المتحدة، فضلاً عن الرأي العام في البلاد العربية والاسلامية.
هذه الصورة لم ترُق للبعض في الداخل والخارج، فجرت محاولات بائسة لإلصاق الفشل السياسي برداء المرجعية الدينية، في حين ان العملية السياسية انتجت نظام حكم قائم على إرادة الشعب الذي أدلى بأصواته الى مرشحين تحولوا فيما بعد الى وزراء و رؤساء ونواب واصحاب مناصب وامتيازات، وليس الأمر كما يحصل في ايران –مثلاً- حيث يتدخل رجال الدين بشكل مباشر في كثير من مفاصل العملية الديقراطية.
ان نجاح تجربة فتوى المرجعية في الميدان العسكري، بعد نجاح سبقه في الميدان السياسي بحثّ الناس على المشاركة في الانتخابات في الدورات الماضية بهدف الإسهام في التغيير نحو الافضل، يعني امكانية تكرار تجارب ناجحة اخرى على الاصعدة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ولا يخفى على المتابع أن العراق، ورغم وجود بعض التهديدات من جيوب ارهابية هنا وهناك، وعدم البتّ نهائياً في ملفه الامني، فانه مقبل على مرحلة جديدة من البناء والإعمار بما يتطلبه من مشاريع استثمار ودخول الاموال والشركات الاجنبية، ما من شأنه التقاطع مع القدرات الموجودة في العراق، من عقول وأيدي عاملة وثروات وفرص عدّة للنمو والتطور، فالذي يتحدث اليوم عن فضله على العراق أمنياً وعسكرياً وبقاء العراقيين أحياء دون أن تبتلعهم داعش! سيتحدث غداً عن فضله في توفير لقمة العيش لهم، وإلا تحولوا الى جياع!
لذا على الساسة واصحاب القرار في بغداد الالتفات الى هذه النقطة الجوهرية في مسألة دور المرجعية الدينية وفتواها المصيرية ذات التأثير على الحياة العامة في العراق، فضلاً عن سائر البلاد الاسلامية. فتهميش دور المرجعية الدينية، لايعني انهم يثبتون جدارتهم أمام الشعب العراقي وأمام الاطراف الاقليمية والمعنية بالوضع العراقي، فالفساد المالي والاداري غير المسبوق، وفوضى القوانين والمحاصصة وغيرها من الاسقاطات السلبية لسياسات فاشلة، تدعوهم الى وقفة تأمل لتصحيح أخطاء الماضي، رغم صعوبة الامر وحجم الفساد المريع والسرطاني في الجسم العراقي، علّهم يكسبون عناصر قوة تعيد لهم قدراً من المصداقية، وتعطي المزيد من الثقة للناس بدعوات التغيير والإصلاح، فكما أن الدافع الديني والمعنوي هو الذي جعل الآلاف تنزل الى الشوارع ويقفون طوابير طويلة لانتخاب هؤلاء الساسة الحاكمون حالياً، فيجب إفساح المجال لهم هذه المرة وبنفس الاندفاع لأن يصححوا المسيرة في الانتخابات القادمة بانتخاب المصلحين والمخلصين كما تؤكد على ذلك المرجعيات الدينية في العراق.
فتوى المراجع والمنطلقات الانسانية
صحيح إن فتوى مرجع الدين ملزمة لعامة الناس، كونها تمثل حكماً شرعياً مستنبطاً من القرآن الكريم ومن السنّة المطهرة لأهل البيت، عليهم السلام، الى جانب قاعدة العقل والإجماع، بيد أن الجهة المستفيدة – إن صح التعبير- هي الجماهير بالدرجة الاولى، وقد كانت معظم فتاوى المراجع طيلة العهود الماضية، من منطلق انساني، ما عدا فتوى الانتماء الى الحزب الشيوعي، في حقبة زمنية استثنائية كانت تشهد تهديداً مباشراً للعقيدة والايمان بالله –تعالى-، وإلا لنراجع الفتاوى الكبرى، مثل فتوى تحريم استخدام التبغ في ايران، وفتوى الجهاد ضد الاحتلال البريطاني في العراق، وقبلها فتوى تأييد ثورة الدستور في ايران وتقليص سلطات الملك وتشكيل أول مجلس شورى (برلمان) في بلد اسلامي في العصر الحديث. كلها كانت تؤدي الى صون حقوق وكرامة الانسان المسلم قبل أي شيء آخر.
ولعل هذا يكون احد عوامل قوة العلاقة بين الجماهير وبين المرجعية الدينية طول التاريخ، حتى أن حاجز اللغة والارض لم يكن عقبة امام استمرار هذه العلاقة المذهلة ذات البعد الحضاري، الى درجة أن يتفاعل ابناء العشائر في جنوب العراق مع فتوى المرجعية الدينية في النجف الاشرف لدعم ثورة الدستور في ايران عام 1905، وهو شأن داخلي بحت، فقد جاء في كتاب عن تاريخ هذه الثورة ودور المرجعية الدينية فيها، بقلم علي أكبر ولايتي، الذي يشغل اليوم منصب المستشار السياسي لمرشد الثورة في ايران، السيد علي خامنئي، جاء فيه: "إن مجموعات من ابناء العشائر في جنوب العراق قامت بتجمعات و"هوسات" تدعم فتوى المرجعية الدينية متمثلة آنذاك بالسيد كاظم اليزدي"، الذي افتى بصحّة المطالبة بالنظام البرلماني وان يكون للشعب فرصة المشاركة في صنع القرار.
ويخلّد تاريخ الحوزة العلمية والمرجعية الدينية، ذكرى الشهيد البطل آية الله السيد محمد الطباطبائي المعروف بـ"المجاهد"، (1180- 1242هـ)، وهو من أبرز علماء الدين في كربلاء المقدسة، ولد فيها وترعرع وتدرج في مراقي العلم، وتولّى المرجعية الدينية بعد وفاة أبيه، بيد أنه لم ينس مسؤوليته الانسانية والحضارية إزاء الامة، فقد كانت ايران في عهد الملك القاجاري؛ فتح علي شاه، تتعرض للعدوان الروسي، بعد سلسلة من الهزائم في حروب عدّة مع الروس، وخسران اراضي واسعة من المملكة الايرانية في مناطق القوقاز وآسيا الوسطى وبحر قزوين، ونظراً لتبنيه لقضايا الامة، استنجد به الملك الايراني، فكانت الاستجابة سريعة منه، وحسب المصادر فان السيد المجاهد توجه الى ايران بمعية مائة من علماء الدين، وتوجهوا الى مقر إقامة الملك في طهران، وتظاهروا امامه معلنين استعدادهم للقتال الى جانب القوات الايرانية ضد الغزاة الروس، ودعوا المسؤولين وعامة الشعب الايراني الى المشاركة في هذه الحرب الدفاعية في الخامس من ذي الحجة سنة 1241هـ، وقد اصدر هؤلاء العلماء فتوى جماعية جاء فيها: إن من يتقاعس عن جهاد الروس يعد كمن عصى الله، واتبع الشيطان".(1)
وكانت نهاية حياة السيد محمد الطباطبائي المعروف بـ"المجاهد" في تلك المعارك شهيداً في مدينة قزوين سنة 1242هـ أي بعد عام على وجوده في ايران، وكان قد أوصى بأن يدفن في مسقط رأسه كربلاء المقدسة، وفعلاً تم تشييعه في ايران، ثم جاؤوا بجثمانه الى العراق ودفن الى جوار مرقد الامام الحسين، عليه السلام.
اضف تعليق