لم تكن الدعوات الى فدرلة العراق، التي تعالت بعد العام 2003 ناتجة عن فراغ، وانما انطلقت من رحم ثقافة سياسية، تكرّست بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت ثقافة الايثار هي السائدة، والدعوة الى الرغيف العالمي، شغلت مساحة واسعة من خطب الساسة ونتاج الادباء والمثقفين والكتاب والفنانين، ممن تأثروا بالنهج الاشتراكي، او اشتغلوا في ظلاله التي اكتسحت اكثر من نصف الكرة الارضية، وسواء كان هؤلاء صادقين او راكبي موجة، فانهم بالضرورة، صنعوا رايا عاما يحتفي بالايثار ويجعله هدفا انسانيا، ينبغي ان يسعى اليه كل انسان ذو ضمير حي.
انهيار المعسكر الاشتراكي، تزامن مع ظهور ما عرف بالعولمة، وكان احتفاء الكثيرين من المثقفين والسياسيين بـ(المشروع الاميركي) الجديد هذا، يوازي الاحتفاء بانتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية في العام 1917 التي الهبت حماسة الملايين، وقتذاك! اذ جاء هذا المشروع مشفوعا بطروحات جذّابة، مثل اشاعة الديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية، حتى بدا للمتابعين، وكإن هذه الطروحات لم تكن معروفة من قبل! مشيرين هنا الى ان اغلب الانظمة الاشتراكية حولت بلدانها الى علب حديدية، مخنوقة بغبار الايديولوجيا .. وبالتاكيد ان بين ثنايا المشروع العولمي، رؤية جديدة للحياة، تقترب من الانانية والتاكيد على مبدا التغالب والاستحواذ واقصاء الضعفاء كمعطى لهذه الثقافة، التي تجانب القيم النبيلة التي اكدت عليها الرسالات الانسانية السامية.
في السنين الاخيرة، خفت صوت المطالبين بفدرلة العراق، لاسباب عديدة، ابرزها انها لم تعد الخطاب الذي يتبناه بعض الساسة، ويروج له مثقفون وكتاب، سائرون على نهجهم، او هذا هو الواقع للاسف. الاّ ان خطابا موازيا للفدرلة، او هو في صلبها، صار رائجا في الوسط السياسي العراقي، وليس الثقافي هذه المرة، يتمثل بتخصيص حصة من واردات النفط والغاز للمحافظات التي ينتج فيها، وقد تم تثبيت هذا في قوانين صدرت في السنين الاخيرة، وتبنته قوى سياسية وبحماسة، في محاولة منها لكسب الشارع في تلك المحافظات، لاسيما البصرة، لما تمثله من ثقل سكاني، بغية الفوز بها مرتين، أي باصوات سكانها ومواردها معا، بعد ان يفوز بها هذه الحزب او تلك الكتلة.
هذه الثقافة التي اقتحمت حياة العراقيين بعد العام 2003، تمثل بداية لتمزيق وحدة اللحمة العراقية، وتجعل مبدا الاستئثار بديلا عن الايثار الذي تبنى به الدول، لاسيما التي عاشت ظروفا قاسية كالتي عاشها بلدنا. فالثروة لاتقاس فقط بحجم الموارد المالية لأي شعب، بل بمجمل ناتج كفاح ابنائه، والاهمية النسبية لبعض الاراضي في الدولة التي يعيش فيها، فهناك، مثلا، اماكن غير مأهولة او قاحلة في بعض المحافظات او الاماكن، لكنها تدخل في صميم حاجات الدولة وضروراتها، كالتجارب العلمية، او لاغراض عسكرية وغيرها، من النشاطات غير الانتاجية، فهل على الدولة ان تدفع لتلك المحافظات اموالا، لكي تحصل على موافقة المسؤولين فيها لتقوم بنشاطاتها تلك؟
الشيء الاكثر اهمية من كل هذا، ان البلاد، اذا ماتعرضت أي بقعة منها الى اعتداء فان جميع ابناء الشعب يكونون ملزمين بالدفاع عنها ودفع ضريبة الدم، وهو عرف عالمي، لاينفرد به العراق وحده، وان اخر الامثلة هو ماحصل للمحافظات العراقية التي اجتاحها داعش الارهابي، اذ هبّ جميع ابناء الشعب من الجنوب والوسط والشمال للدفاع عن تلك المحافظات، وسفحوا دماءهم من دون مقابل.
نعم، ان العدالة في دفع الدم، يجب ان تكون موازية للعدالة في دفع المال، وان ثروة العراق في أي محافظة هي لكل العراقيين طالما ان مسؤولية حماية كل محافظة او مدينة والدفاع عنها من مسؤوليتهم جميعا ايضا.
ما يؤسف له، ان بعض المسؤولين في المحافظات المنتجة للنفط، صاروا يصعّدون الارقام في سياق مطالبتهم بالامتيازات المالية، اذ وصلت مطالبتهم، قبل مدة، الى نسبة العشرين بالمائة بدلا الخمسة بالمائة من قيمة برميل النفط! متأثرين بما قرأوه عن اميركا وغيرها من الدول الفيدرالية، التي تستاثر فيها الولايات المنتجة للثروات بالحصة الاكبر من واردات الانتاج، متناسين ان هذه الدول، تشكلت تاريخيا بطريقة مغايرة للعراق، فاميركا، مثلا، كانت فيها الولايات قبل الاتحاد بمثابة دول قائمة، سواء بمساحتها او نفوسها، وبثقافتها وادارتها كذلك، وعندما اتحدت احتفظت ببعض امتيازاتها الاساسية، بينما العراق بلد صغير نسبيا ووارداته اذا ما وزعت على طريقة تلك الدول فسيتفكك ولن يبقى دولة، وسط واقع اقليمي مضطرب واستهداف دولي مستمر لاسباب مختلفة، لان الشرق الاوسط له حساسيته وخصوصية في حسابات الكبار.
الشيء المهم الذي علينا ان نقوله ونؤكد عليه، ان الاموال التي خصصت للمحافظات خلال السنين الماضية، لو صرفت للخدمات والبناء لكان وضعها جميعا مختلفا، لكن الفساد وسوء الادارة حالا دون تحسن اوضاع الناس فيها، وان حصة المحافظات المنتجة من (البترودولار)، التي يطالب بها البعض، تعني زيادة ارصدة الفاسدين لااكثر. والشئ المهم الاخر هو اننا خرجنا من حرب مدمرة، وان اعادة بناء البلاد تحتاج الى ايثار من قبل الجميع لحين عبورنا المحنة .. في الاقل.
اضف تعليق