q

حين هبطت الطائرة التي تقلنا في مطار دمشق الدولي، منتصف ليلة 11-1-2018 تقريبا، رحت استعرض صورا عديدة للمدينة التي لم ازرها من قبل، تزاحمت في ذاكرتي التي عبئتها احاديث العائدين منها، وساحاول ان اجمعها في صورة واحدة، عندما تفرش دمشق نفسها امامي بعد لحظات .. فالمدينة التي زارها مئات الالاف من العراقيين في السنين الاخيرة، نقلوا عنها الاف الصور ايضا والحكايات، كل من زاوية نظره، اذ زارها مثقفون وتجار واناس بسطاء، سائحون او هاربون من جحيم السنين القاسية التي عاشها العراق لاسيما في عامي 2006 و2007.

دمشق التي تغفو في احضان جبل قاسيون، من المدن التي تسكن ذاكرة الاجيال العربية، فهي ليست اسما عابرا في التاريخ، بل ميدانا لصناعة دولة كبرى وحضارة، اختلف فيها المختلفون واتفقوا على اهمية دمشق التي قطنت حكاياها واسرارها مئات الكتب التراثية والحديثة والمعاصرة، وهي ايضا، مدينة الادباء والشعراء والمثقفين الذين تركوا بصمات لاتمحى من الذاكرة العربية والاسلامية.

كنت بمعية الصديقين الشاعر جبار الكواز والناقد والباحث باقر الكرباسي، نمثل وفد اتحاد الادباء والكتاب في العراق لمؤتمر اتحاد الادباء العرب الذي انعقد هناك للمدة من 13 الى 15-1-2018 والذي يعكس انعقاده في دمشق، رمزية خاصة ورسالة في غاية الاهمية للسوريين ولغيرهم ايضا، لان البلاد التي عاشت منذ نحو سبع سنين ظروفا صعبة للغاية، هددت وجودها كدولة، وكادت تمزق لحمة شعبها، تعلن من خلال هذا المؤتمر وغيره من الفعاليات العربية فيها، انها عادت من رحلتها المضنية تلك بجروح عديدة توزعت جسدها الكبير، لكن ايضا بأمل اكبر يعكس عشقها للحياة التي كادت تنطفئ، او هكذا كان يصوّر لنا الاعلام المتأرجح بين الحقيقة والتهويل! .. لهذا كان الشوق لرؤية دمشق، يعادل حجم الخوف عليها وعلى اهلها، بعد ان بلغ طوفان الارهاب مداه حين داهم المدينة، ولعل اثاره على جسدها مازالت تحكي بعضا مما عاناه الناس هناك، حين رحنا نتجول في شوارعها وميادينها وضواحيها بين الناس، الذين تكتظ بهم ارصفة المدينة صباحا، بعد ان فوجئنا بالصمت شبه المطبق يوم الجمعة، اليوم التالي لوصولنا، وقيل لنا ان اليوم تكون الحركة فيه شبه معدومة وتبدو الحياة في دمشق شبه مشلولة، وهذا من طقوسها الاعتيادية القديمة ..

حين تسير في دمشق، تشعر وكأنك في بغداد، فوجوه الناس هناك تشبه وجوه البغداديين، ولباسهم ايضا، وايقاع الحياة الذي يذكرك بشارع الرشيد او السعدون، وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه سوريا، لكن التماسك المجتمعي واضح، اذ نادرا ما تجد شحاذا، واللياقة الاجتماعية حاضرة في كل شيء، فضلا على امتلاء الحياة الذي يعكسه اكتظاظ المقاهي الحديثة بالزبائن لوقت متأخر من الليل، وكذلك حيوية المحال التجارية المختلفة، سواء في مركز المدينة او الاطراف، حيث زرنا وتجولنا في احياء المرجة وساحة ميسلون وجرمانة والمزة والمهاجرين والسيدة زينب وسوق الحميدية واحياء اخرى لم نعرف اسماءها، ووجدنا ايقاع الحياة صاخبا، لاسيما في الصباح، والحياة الطبيعية تسير بانتظام، تؤكده نظافة الشوارع والارصفة والالتزام بنظام المرور، الذي خلق انسيابية بالرغم من وجود الحواجز الامنية، التي وجدنا وقعها خفيفا على حياة الناس، ويكاد المواطن لايحس بوجودها، لعدم تسببها في ازدحام للسير او تضييق على حركة السابلة.

من دون ادنى شك، ان سكان دمشق يخفون الما كبيرا لما سببته الحرب من فقدان الكثير من الاحبة، وتداعياتها واضحة على نفوسهم قبل اقتصادهم، لاسيما بعد ان عرفنا الفارق الكبير بين قيمة الليرة قبل الحرب وقيمتها اليوم، اذ استنزفت ثروات البلاد نتيجة تدمير البنى التحتية لاكثر من مدينة ونهب منشآتها، والنزوح الذي شهدته كبرى المدن السورية الصناعية كحلب وغيرها، وكل هذا يجد صداه مباشرة في العاصمة وفي اقتصاد البلاد الذي سينوء بهذا الحمل الثقيل حاضرا ومستقبلا ايضا، لكن الهم الاكبر لدى الناس هو انتهاء الحرب في كل البلاد، وانهاء الازمة التي طالت اكثر مما يجب.

في العام 2000 او بعدها بقليل زار احد الادباء السوريين العراق (لم اتذكر اسمه) ، وقد كتب مادة، في احدى الدوريات العربية، عن رحلته تلك بعنوان ( كنا في العراق .. بلد التاريخ والجغرافيا الممزقة) استعرض فيها مشاهداته عن العراق وبغداد، وقد كان موضوعيا في نقله الحقيقة من دون مبالغة تخفي مقاصد سلبية او ايجابية .. وحين هممت بان اكتب عن دمشق، حضرت في ذاكرتي تلك المادة، فسوريا غدت هي ايضا وللاسف، بلد التاريخ والجغرافيا الممزقة! ولعلها الان تلملم اجزاءها المبعثرة باصرار واضح. وتساءلت مع نفسي، لماذا قدر علينا ان نعيش في محن متواصلة، وكإننا نتوارث الكوارث بلد عن بلد. فاية اياد خفية ماكرة تلك التي تعبث بمصائرنا؟! لذا قررت ان اكتب هذه السطور عن دمشق بما رايته، او ما ظهر منها امامي .. سطور عابرة لعلها تعطي للقارئ، مايجعله قريبا من صورتها الحقيقية التي تحتاج الى مساحة اوسع من هذه بالتاكيد.

اضف تعليق