في العشرين من تشرين الثاني 1977 زار الرئيس المصري الراحل انور السادات اسرائيل .. كان الحدث، وقتذاك، صاعقا للكثيرين من العرب، ومفاجئا للكثيرين من الغربيين، باستثناء الذين كانوا يراقبون الاحداث من مساربها التحتية والخفية!
كانت للرجل مبرراته، اذ رأى ان اغلب الدول العربية، تتحدث كثيرا في وسائل اعلامها ضد اسرائيل، لكنها غير مستعدة لدفع ثمن المواجهة معها، كون اميركا والغرب باغلب دوله المؤثرة يقفون خلفها .. وبعد حرب خاطفة، في تشرين اول / اكتوبر من العام 1973 التي اطفأت بعضا من نار الغيظ في نفوس العرب بشكل عام، على خلفية نكسة حزيران 1967 والمصريين بشكل خاص، وتحقيق نصف انتصار على اسرائيل، تحرك السادات نحو الهدف الذي رسمه مسبقا، وهو الصلح مع اسرائيل وبدء رحلة سلام معها.
الشيء الذي سيكون للتاريخ اكثر من الزيارة نفسها، والذي فاجأ الكثيرين، هو ان السادات لم يبدا مشروعه بالتدريج، بل بدأه بشكل مباشر وصادم، اذ كان عليه ان يبدا بلقاء رئيس وزراء اسرائيل في احدى العواصم الاوربية او اميركا، كبداية لكسر الحاجز النفسي وليضعا الخطوط الرئيسة لمشروع السلام، ثم تبدا المباحثات بزيارات متبادلة. وبذلك سيكون وقع الصدمة على العرب وغيرهم اخف بعض الشيء. لكن الذي حصل هو ان السادات زار اسرائيل مباشرة ومن دون مقدمات اعلامية كافية حتى، والأنكى من ذلك ان طائرته حطت في القدس وليست في تل ابيب، ليستقبله في مطارها رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن. وبالتأكيد كان المكان الخطأ، لان القدس او نصفها العربي، يوصف دوليا، بالمحتل، وان بدء عملية السلام من هناك لم يكن موفقا ولو من الناحية الاجرائية، بعيدا عن الموقف المبدئي من العملية برمتها.
لقد كان اليمين الاسرائيلي، الذي يتكئ على ثقافة دينية صهيونية، يرى ان القدس الشرقية التي اصبحت بعد التقسيم في العام 1947 من حصة دولة فلسطين المفترضة، والتي تضم المسجد الاقصى وقبة الصخرة، امرا غير مقبول، كون التقسيم، يتجاهل، وفقا لثوابتهم الدينية، حقيقة ان المسجد الاقصى بني فوق (هيكل سليمان)! و(حائط البراق) الذي يقدسه المسلمون، لانه يمثل عماد قصة الاسراء والمعراج، هو بالنسبة لهم (حائط المبكى) اليهودي، الذي يكمل طقوسهم الدينية، ويؤكد احقيتهم في المكان!
هذه المسالة الخلافية التي تسببت بحرب العام 1967 والتي جاءت في سياق ستراتيجية صهيونية قديمة، تهدف الى الاستيلاء على القدس كلها، بعد ان تصبح لليهود دولة معترف بها من قبل الكبار في العالم، لم يتم الحديث عنها، الاّ في سياق اجرائي يتعلق بمبررات نكسة حزيران والمناكفات الاعلامية التي سبقتها، وهذا لاقيمة له عند القراءة العميقة للاحداث، اذ تبين لاحقا، ان الهدف من كل حروب اسرائيل هو تكريس يهودية القدس وفرض ذلك على العرب والمسلمين. وان ماحصل من تهويد للقدس بالتدريج، كان مدروسا ومخططا له، وسيكون الانتهاء منه بعد تدمير مراكز القوة العربية، وتحديدا مصر والعراق وسوريا.
اليوم وبعد الانتهاء من حفلة داعش وما جرته من خراب لهذه الدول الثلاث، تجري الاستعدادات في واشنطن للاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لاسرائيل خلافا لقرارت الامم المتحدة ومجلس الامن الذي يؤكد، بالكلام فقط، على ضرورة الانسحاب من الاراضي التي احتلتها اسرائيل في حرب العام 1967 وعودة اللاجئين لحسم النزاع، لاسيما بعد اعتراف الحكام العرب باسرائيل، في قمة بيروت العام 2002 في حال عودتها لحدود العام 1967.
هل ناقش السادات هذه المسائل بجدية مع اسرائيل؟ نعتقد ان الرجل وان ناقشها فلم يفلح في الحصول على شيء خارج ماتحقق لمصر في سيناء، ولم يفلح غيره بعده ايضا، لان اليمين الصهيوني الذي يمسك بالسلطة هناك لن يسمح بمناقشة قضايا يراها مقدسة! ومن يتابع مسلسل الاجراءات التي اتخذتها اسرائيل منذ احتلالها القدس الشرقية، سيتيقن من ان تهويد هذه المدينة يجري على قدم وساق، بدءا من الحفريات تحت الاقصى للبحث عن الهيكل المزعوم وانتهاء بالمستوطنات اليهودية التي باتت تحاصرها، وسط عجز عربي ونفاق دولي واضح. وهنا لابد لنا من ان نحيي الموقف المنصف والشجاع لمنظمة اليونسكو من الحفريات الاسرائيلية تحت المسجد الاقصى واعلانها بان المسجد الاقصى تراث عربي، منوهين هنا الى ان المنظمة لاتنظر للامور بعين دينية بل ثقافية بحتة.
اعتراف ادارة ترامب المرتقبة، والتي نتمنى ان لاتحصل، بالقدس عاصمة موحدة لاسرائيل، والتي تثير قلق العرب والمسلمين، قد تكون تتويجا لرحلة طويلة من الهزائم العربية، لكنها بالتاكيد لن تكون النصر النهائي لاسرائيل، لأن الايام دول، وحقوق الشعوب لاتسقط بالتقادم، ولا باعترافات مدفوعة الاثمان، وهو ما على السيد ترامب ان يعرفه!
اضف تعليق