خمسة أهداف، حددها الوزير الأمريكي ريكس تيلرسون لاستراتيجية بلاده الجديدة في سوريا:
(1) منع عودة داعش والقاعدة من العودة، بصيغتيهما القديمة أو بأية صيغ جديدة....
(2) الحد من نفوذ إيران في سوريا، ومنعها من تدشين "هلال شمالي" يربطها بدمشق وضاحية بيروت الجنوب...
(3) منع سوريا من امتلاك أسلحة دمار شامل...
(4) المساهمة في توفير حل سياسي للأزمة السورية، لا يلحظ دوراً للأسد في مستقبل سوريا...
(5) تمكين اللاجئين من سوريا والنازحين فيها، من العودة إلى مدنهم وقراهم طواعية ومن دون إكراه.
في التفاصيل تسعى واشنطن في تأمين وجود عسكري دائم لها في شمال وشرق سوريا، من "التنف" إلى "الطبقة"، وتسييج المنطقة الحدودية بقوة مدربة قوامها 30 ألف عسكري، نصفهم من قوات حماية سوريا... أما الخطة "العملانية" فتقتضي كسر "الهلال البري" ومنع إيران من الحصول على تواصل جغرافي مع حليفيها السوري واللبناني.
واشنطن، ووفقاً للوزير تيلرسون، وضعت في صدارة أولوياتها السورية، حفظ مصالحها حليفتها وربيبتها إسرائيل: من غير المسموح لإيران أن تحتفظ بوجود وازن في سوريا، لا مباشر ولا عبر المليشيات المحسوبة عليها... ومن غير المسموح للنظام السوري، أي نظام، الحالي أو المستقبلي، بتملك أسلحة كاسرة للتوازن مع إسرائيل، أو بالأحرى، تنتقص من نظرية "التفوق الاستراتيجي لإسرائيل في المنطقة.
وفي تفاصيل الخطة وثناياها، لا تبدو الخشية الأمريكية الحقيقية منصبة على عودة داعش والقاعدة، كما زعم الوزير... مصدر القلق الأهم، من احتمال عودة الرقة السورية إلى حضن الدولة السورية، الأمر الذي سيبدو معه، كما أو واشنطن قدمت "المناطق المحررة" من داعش، على طبق من فضة للنظام وحلفائه، واستتباعاً لإيران.
ومن بين الأهداف الجانبية، غير قليلة الأهمية لهذه الاستراتيجية، وتحديداً في شقها المتصل بإبقاء قوات أمريكية في قواعد ثابتة في سوريا لأمد طويل، هو الحيلولة دون انقضاض تركيا بقوتها العسكرية المتفوقة، على الكيان الكردي الناشئ، ومنع اندلاع حرب تركية – كردية، لن تستفيد منها سوى دمشق وطهران، وتضع واشنطن في موقف حرج بين حليفين أساسيين لها في المنطقة، وقد تجهز على البقية الباقية من النفوذ الأمريكي المُكلف في كل من سوريا والعراق.
إن كانت هذه هي الأهداف الكبرى و"الجانبية" للاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي كشف عنها بتوسع الوزير الأمريكي في كاليفورنيا، فإن الأسئلة التي تزدحم في أذهان المراقبين والمتابعين للشأنين الأمريكي والسوري، تدور حول الأدوات والحلفاء والإمكانيات التي تتوفر عليها واشنطن لتحقيق أهداف خطتها الجديدة، وهنا تقفز إلى السطح جملة من المعيقات التي تجعل هذه الاستراتيجية "مفخخة" ومستبطنة لعناصر فشلها.
منها ما يتعلق بقدرة الولايات المتحدة، معطوفة على رغبتها في حشد قوة عسكرية على الأرض، قمينة بتحقيق هذه الأهداف... فالتجربة برهنت على أن الحلفاء المحليين لم يصمدوا طويلاً في مواجهة قوات النظام أو حلفائه، أو حتى في مواجهة داعش ذاتها، ولم يكن بمقدور واشنطن "تحرير" الرقة إلا بعد تدميرها عن بكرة أبيها، وإبرام صفقات "انتهازية" مع داعش، قضت برحيل آمن لمئات المقاتلين والقادة "الجهاديين" كما بات معروفاً.
والمسألة الثانية؛ أن اعتماد واشنطن المتزايد على الحركة الكردية، النواة الصلبة للجيش المعارض الجديد الذي تعمل على إنشائه، تحت مسمى "حرس الحدود"، من شأنه تعميق الخلاف التركي – الأمريكي، وتسعير وتيرة التناقضات من الأتراك والأكراد، وجر المنطقة إلى أتون جرب جديدة في شمال سوريا، بدأت نذرها مع قذائف القصف المدفعي التركي على تلال عفرين ومحيطها.
والمسألة الثالثة؛ أن إعلان واشنطن أنها بوجودها العسكرية في سوريا، إنما تستهدف إيران على وجه الخصوص، وتسعى في قطع تواصلها الجغرافي مع سوريا ولبنان، من شأنه أن يجذب عشرات ألوف المقاتلين المقربين من طهران والمحسوبين عليها، إلى المواجهة مع القوات الحليفة لواشنطن، وربما مع القوات الأمريكية ذاتها... سيناريو كهذا ستتزايد احتمالاته، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها مرغمة على المفاضلة بين واحد من خيارين: إما العمل على بناء المزيد من عناصر القوة الأرضية في المنطقة، أو الانسحاب قبل إنجاز أهداف الاستراتيجية الجديدة ومراميها.
والمسألة الرابعة؛ وتتعلق بالنظام السوري، الذي يبدو أنه هدف من أهداف الاستراتيجية الجديدة، وقد اظهر النظام استمساكاً مذهلاً بالسلطة والبقاء على رأسها، وليس من المنطقي توقع تهاونه أو جنوحه للمهادنة بعد أن بلغت الأزمة السورية مربعها الأخير... لقد هدد النظام بالتصدي للوجود الأمريكي "الدائم" في سوريا، وأحسب أن لديه أوراقاً فعّالة، غير القوة العسكرية، سيستخدمها في اللحظات المناسبة، ومنها تأليب العشائر العربية على الأكراد، وشد العصب القومي السوري في مواجهة الانفصالية الكردية التي تقلق المعارضة بقدر ما تقلق النظام.
والمسألة الخامسة؛ تفترض أنه في الوقت الذي تخوض فيه واشنطن غمار "استراتيجيتها الجديدة" من دون حلفاء دوليين أو حضور إقليمي فاعل كما يبدو، فإنها برهانها الذي يكاد ينحصر على أكراد سوريا، تدفع تركيا دفعاً للتقرب من طهران والاقتراب من موسكو... وأحسب أن مشكلة هذه الاستراتيجية أنها تأتي بعد فوات أوانها... فالعالم ضاق ضرعاً بهذه الأزمة، والحلفاء الأوروبيون أجروا مراجعات واستدارات باتجاه قبول الحل بوجود الأسد ومشاركته، وربما أخذوا يتقبلون الرواية الروسية، ووكالة بوتين للملف السوري، فيما واشنطن تعدهم بفتح فصل جديد من فصول هذه الحرب، نعرف جميعاً متى يبدأ وكيف، بيد أن أحداً لا يعرف متى ينتهي، أين وكيف؟
اضف تعليق