فتحت الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها طهران وعدد من المدن الإيرانية على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، الباب رحباً لجدل لم يتوقف، ولن يتوقف في المدى المنظور، حول فرص وعوائق التغيير في إيران، أدواته وأساليبه، والحوامل الاجتماعية لمشروع التغيير في ظل نظام فريد من نوعه... ولقد تصاعدت حدة الجدل حول هذه العناوين بعد التوقيع على الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة (5+1)، إذ تبلورت وجهتا نظر رئيستين على الساحتين الإقليمية والدولية، الأولى؛ تعتقد بأن الانفتاح على إيران وإدماجها في المجتمع الدولي والسوق العالمية، هي أداة التغيير "الناعمة" الأكثر ملاءمة في الحالة الإيرانية، فيما يعتقد أنصار وجهة النظر الثانية، بأن عزل إيران واستهدافها بنظام صارم للعقوبات ودعم "المعارضة الخشنة" ربما يكون الطريق الأقصر للتخلص من "نظام ولاية الفقيه".
يتمحور هذا الجدل أساساً حول سؤالٍ جوهري يتعلق بدور "العامل الخارجي" في عملية التغيير المنتظرة، والمرغوبة لدى أطراف إقليمية ودولية عديدة، وما الذي يتعين على "القوى الدولية" أن تفعله حيال إيران، وما إذا كان بمقدورها أن تكون عاملاً محفزاً للتغيير، أما سبباً في "توحيد" إيران بتياراتها واتجاهاتها المختلفة، لمواجهة ما يُعتقد أنه "تهديد خارجي"، وتمكين العناصر الأصولية والمحافظة في البلاد، من فرض سطوتها على بقية التيارات والاتجاهات، بذريعة مقاومة التهديد الخارجي، والتصدي "للمؤامرة والمتآمرين".
طوال ما يقرب من أربعة عقود على انتصار "الثورة الإسلامية" في إيران، جربت القوى المناهضة لإيران، في الإقليم وعلى الساحة الدولية، مختلف أشكال التدخل الخشن لتقرير مستقبل إيران، والحد من أطماعها الإقليمية التوسعية، وتعطيل برامج التسلح الطموحة التي أطلقتها الجمهورية الإسلامية، ولم تكن حرب السنوات الثمانية بين العراق وإيران، سوى فصل واحدٍ من فصول عديدة ستتوالى لاحقاً، إن من خلال فرض نظام صارم للعقوبات الدولية، أو عبر دعم جماعات معارضة، سياسية ومسلحة، وطنية وانفصالية، بهدف زعزعة أركان الحكم وتقويض نظام "الولي الفقيه" الذي انبثق عن ثورة 1979.
لكن حصيلة هذه السنوات الطويلة، جاءت بخلاف المرامي والأهداف التي سعت إليها الأطراف المناهضة لإيران... فالاقتصاد الإيراني استطاع التكيف مع نظام العقوبات الدولية، بل واختراقه في مكامن عديدة، برغم الصعوبات التي واجهها، والتي أدت إلى بروز حركات احتجاج متكررة، كان آخرها ما حصل في الأيام الأخيرة للعام المنصرم... وإيران استطاعت إن تُبقي على نظامها السياسي، وأن تمد نفوذها الإقليمي في المنطقة، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، مستفيدة من ضعف العالم العربي وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة بعد حربي أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وفوق هذا وذاك، نجحت إيران في تملك "الدورة النووية الكاملة"، وباتت تتوفر على التكنولوجيا والمعرفة في هذا المجال، بما يبقي باب الخيارات مفتوحاً أمام قيادتها، للذهاب بهذا البرنامج في أي اتجاه تريد.
وعلى الرغم من القيود الصارمة التي يفرضها "نظام ولاية الفقيه" على "التعددية" الإيرانية، ونجاح الحكم الثيوقراطي في "تحييد" التيارات السياسية والفكرية اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية، في نهاية مسار معقد من التحولات في موازين القوى بين مكونات الثورة الإيرانية واتجاهاتها، إلا أن انقسام النخبة السياسية والاجتماعية الإيرانية بين إصلاحيين وأصوليين، ظل يطبع الحياة السياسية الداخلية بطابعه الخاص، ويمكن القوى أن تاريخ إيران في السنوات العشرين الفائتة، هو تاريخ الصراع بين هذين التيارين على السياستين الداخلية والخارجية، وعلى مواقع السلطة والنفوذ في البلاد.
لقد راهن كثيرون، على أن توقيع إيران على الاتفاق النووي مع القوى الرئيسة في المجتمع الدولي، وسعي حكومة الرئيس حسن روحاني المحسوبة على التيار الإصلاحي، من شأنه أن يعزز مواقع هذا التيار في الحياة السياسية الداخلية الإيراني، وأن سعي إيران للاندماج في الاقتصادات العالمية، من شأنه أن يفضي إلى مزيد من الانفتاح السياسي الداخلي، وأن يشرّع الأبواب أما رياح التغيير السلمي المتدرج، من دون أن تجد إيران نفسها مرغمة على الدخول في نفق "الفوضى غير الخلاقة" التي لا تهدد أمن البلاد ووحدتها فحسب، بل وتطاول بتهديداتها، أمن واستقرار الإقليم الممتد من أفغانستان والباكستان إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
لكن الرياح بعد أزيد من عامين على توقيع الاتفاق، لم تأت بما تشتهي سفن الإصلاحيين الإيرانيين، فالقوى المحافظة والأصولية في الداخل، عملت كل ما بوسعها لمنع التيار الإصلاحي من "توظيف" الاتفاق وقطف ثماره داخلياً، ولقد تظافرت جهود اليمين الإيراني، مع جهود التيارات اليمينية الشعبوية المحافظة في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي نما نفوذها واتسع خلال الفترة ذاتها، من أجل إفراغ الاتفاق من مضامينه، والعودة إلى مربع المواجهة والعقوبات والتصعيد، في تلاقٍ موضوعي ومألوف ومتكرر بين مصالح ومواقف أقصى اليمين في الدول المتخاصمة والمتحاربة.
اليوم، وفي ضوء ما شهدته إيران من احتجاجات، ومع تسرّع الولايات المتحدة وبعض حلفائها الإقليميين في القفز إلى حلبة الصراع الداخلي في إيران، يسترجع المحافظون والأصوليون مواقعهم التي خسروها، ويستعيدون زمام المبادرة في الداخل، وسط انكفاء ملحوظ للتيار الإصلاحي والمعتدل، ومع تنامي "التهديد الخارجي" الذي تكشف بالتصريحات المتعجلة لبعض أركان الإدارة الأمريكية والإعلام الخليجي الموالي للسعودية والإمارات، بدا أن مختلف الأفرقاء على الساحة الداخلية الإيرانية، قد رجحوا خيار "ربط النزاع" و"التوحد" في مواجهة تحديات التدخل الخارجي، سيما وأن أحداث إيران، سبقت بأسابيع قليلة فقط، الموعد المقرر لاتخاذ الرئيس ترامب قراره بالمصادقة أو عدم المصادقة، على تمديد رفع العقوبات عن إيران، وهو القرار الذي صدر مؤخراً، ووصف بأنه "التمديد الأخير" لرفع العقوبات و"المصادقة الأخيرة" على التزام إيران بمقتضيات الاتفاق النووي.
والحقيقة أن دروس السنوات الأربعين الفائتة، تؤكد بما يدع مجالاً للشك، أن التغيير في ظل نظام ديني – شمولي، مؤسس على مفهوم خاص للدولة، لا يقطع مع "الكيانات اللادولاتية" ويقوم على توزيع السلطة بين كيانات رسمية وأخرى شعبية وغير رسمية، تتبع "المرشد الأعلى"، لا يمكن أن يأتي من الخارج، ولا بالوسائل والأدوات الخشنة... وأن النموذج الأقرب للتجربة الإيرانية في التغيير، هو النموذج السوفياتي، الذي ما أن دخل في مرحلة الانفتاح (الغلاسنوست) والإصلاح (البيروسترويكا)، حتى وجد نفسه خارج النظام القديم كلية، وأن الأدوات الناعمة وحدها يمكن أن تحدث التغيير الذي تنتظره أطراف إقليمية ودولية عديدة، وربما بفارغ الصبر.
والتغيير في إيران، كما في الاتحاد السوفياتي القديم، لن يحدث بـ"ضربة واحدة"، وبين عشية وضحاها، فهو عملية متدرجة بدأت بسياسة الوفاق الدولي واتفاقات خفض التسلح ومنع الانتشار النووي والصاروخي ووقف سباقات التسلح والحد منها، وصولاً لسياسات الانفتاح والإصلاح التي قادها غورباتشوف، والتي انتهت إلى ما انتهت إليه من تفكيك الاتحاد السوفياتي بصورة طوعية وسلمية (عموماً مع بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها)، فضلاً عن الانتقال المتدرج لاقتصاد السوق والاندماج المتدرج في النظام الاقتصادي العالمي.
والخلاصة، أن إبقاء سيف "التدخل الخارجي" مسلطاً على الرقبة الإيرانية، واستخدام القوة الخشنة أو التلويح بها، ليست هي الحل في الحالة الإيرانية، وأن حفز التغيير في إيران يقتضي اتباع دعم وتمكين التيارات الإصلاحية المعتدلة والمنفتحة داخلياً من جهة والحد من الانتهاكات الإيرانية المتكررة لقواعد ويستفاليا التي أرست ملامح النظام الدولي من جهة ثانية، وبخلاف ذلك، سيظل الحال على ما هو عليه، وربما لأربعين عاماً قادمة.
اضف تعليق